أعمدة الرأي

حينما ينتصر الصرار على النملة .

الأستاذ إدريس زياد

حينما ينتصر الصرار على النملة، يرسم وطناً بلا حدود ويرفع علمه وكأنه وطني، ويردد أناشيد التدجين بلا كلل ولا ملل، حينها توكل إلى الكسول صاحب الخبرة الذائعة الصيت في التلحين والغناء على الجراح والركوب على الأقراح، مهمة مراقبة النمل وإعداد التقارير المزيفة، مثل هذه الأفعال تفضح زيف مزاعم الوطنية التي فرزت بيئات الذل والهوان، وأنها ليست سوى عنتريات ونزعات تنتاب المجتمعات في فترات الفزعة، وتبرد وتصاب بالفتور بعد فترة معينة وتفتقد للصفوة، ويعتليها كل من هب ودب، وتصبح منظومة مصالح ومنافع…

يبقى النقاش السياسي في الوقت الراهن مجلبة للعداوة بين الأهل والعوائل والأصدقاء وعامة الناس، ومدعاة للجهر بقول السوء، وكم رأينا من ذلك خلال سنين وأعوام سباً وشتماً وتسفيهاً وتشفياً، فإذا كنت صاحب رأي مختلف، فهذا يعني أنك تحاول الاقتراب من الحقيقة كما يحاول المختلِف، وأن لا تفترض خطأ رأيه بل احتمال الخطأ، وأن رأيه يعادل رأيك، ولا يمكنك أن تقصي رأيه كما لا يمكنه أن يقصي رأيك، إذاً فلا داعي لأن تتحداه ويتحداك، ولا أن ترفع صوتك عليه أو يرفع صوته، فلن يغيّر ذلك من رأيه أو رأيك حتى لو انسحب أحدكما، ليست القضية في أن نختلف بل أن نعرف سبب الاختلاف، فلا داعي لتعمد الخطأ في حق المختلفين بسبب المزاج والرغبة في التحكم، فالميدان يتسع للجميع، وكثيراً ما تبدو الآراء الصادرة عن بعض ذوي الرأي مجرد تفريغ لأهواء مختلطة، لا تستطيع الوقوف وحدها إلا بالكثير من الحبال والسّنادات الصغيرة والتبريرات المحبوكة، هذه الآراء تريدك بسرعة أن تثق بها، وتعترف بأنها فكرة حية ومفيدة، وهذا جانب خطير، لذلك لا ينبغي لك أن ترى في أي رأي وجاهة إلا بعد أن يشرح لك صاحبه طريقة وصوله لهذا الرأي، ولماذا لم يذهب إلى غيره…

إن القدرات الفكرية والمعرفية والمادية أو التموقع في مراكز المسؤولية لا يمنح القدرة على المواجهة ما لم يمتلك الشخص خبرة منهجية في خطط المواجهة، وقوة الاحتجاج، ومنطق المناقشة، واستدراج الخصم وإلجامه، وتنظيم محكم في مصارعته، وتفنيد ادعاءاته، وتفريغ حججه من مضمونها، واتباع تكتيكات المناورة ضده، وليس في ذلك أي انتقاص منك إذا نصحك البعض، فالجدال في المواجهة علم وفن له أدواته الخاصة به…

فقدان البوصلة لبعض الأحزاب في ظل تقديم الحرص على البقاء في الواجهة والتمترس في السلطة على حساب القيم والمبادئ، يبين أنه لا يوجد في العمل السياسي محددات، ولا يوجد في مساحة التغيير مقيدات، فالسياسة لا تجرف إلا بالسلطة والمال والفساد دون إنجازات تذكر إلا تلك التي في مصلحتهم، رغم أن متطلبات السلطة جارفة حتى قبل توفر هذه الأشياء، فلطالما استطاع العمل السياسي أن يجرف العاملين فيه، ففيه مذاقات مغرية كمذاق التحدي والمناورة والمفاوضة والاستقطاب والتحالف والنفوذ، واللعب في ميدان السياسة يتطلب الكثير من وضوح الرؤية وشدة الالتزام بالمبادئ، لأن أي انحراف محدود، وتبرير ذلك بوضع ضوابط مقيدة، يعني أن الضوابط ستزول ويبقى الإنحراف، وتنفرج زاويته، ويتروضون أكثر كلما انغمسوا أكثر، وتنفض عنهم الحاضنة الذكية الغاضبة…

إن ما جرى و يجري اليوم هو جزء لا يتجزأ من حركة التحول التاريخي التي تجسدت بانطلاق المطالب الشعبية، رغم أن معظم الإنتفاضات السالفة قد تم الركوب عليها من قبل الخونة و السماسرة وتجار السياسة، لكن يبقى لدينا أمل أكيد أنها ستعود إلى السكة الصحيحة، بعدما تتخلص من الشوائب والقذارات التي علقت بها، إلا أن قوى الشر والممانعة تقاتل بكل خبث ودهاء ومكر، لمنع التغيير أو تأخيره على الأقل، لكن عقارب الساعة لن تعود إلى الخلف أبداً، ويندرج ضمن قوى الممانعة أيضاً ما قد يبدو ظاهرياً للبعض أنها أطراف قلبها على الوطن، غير أنها لا ترى إلا مصالحها الخاصة، أطراف تتصيد الهفوات والأخطاء، وتتحيّن الفرص لتنفث سموم الفتنة والفرقة تارة، وتبث خطاب الإحباط والإستسلام والرضى تارة أخرى، متوسلة إلى عموم المواطنين بخطاب غارق في الإتكالية والإنتظارية المؤدية إلى الأوهام والأحلام، أو بخطاب وقوده الغوغائية والإندفاعية المنفلتة، أو خطاب العبثية والعدمية الذي يتغذى على الجهل والفقر والتخلف، لا ننكر أن الخطأ أيضاً في المواطن الخنوع الأعمى الذي يقتات على الفتات ولا يعرف غير الهرطقة والأوقات اللحظية ويرى الحفرة المميتة ويتسابق للسقوط فيها…

صحيح أن التحول والتغيير قد يأخذ بعض الوقت، لكن الأكيد هو أن هذا الرهان محسوم لصالح الشعب مهما تخاذل المتخاذلون ومكر الماكرون، لأن الطغيان عابر والوطن ثابت، ومهما أظلم الليل فضوء الصباح مشرق، نعم سيلزم بعض الوقت لتفادي العواصف لكن في آخر المطاف، سترسو سفينة الوطن على بر الأمان، إن قُدّر لهذا الجيل من المغاربة أن يعاني و يتحمل بالقدر نفسه الذي يتشرف فيه بإرساء أولى دعامات دولة المواطنة الحقيقية، فهو يدفع فاتورة قرون من الخوف والضعف والجهل، أما ما يسمى بالحكامة الجيدة فلن تأتي بهذا العبث، بل يجب أن تنصف المظلومين والمكلومين من مواطنين ضعفاء وموظفين صغار وعمال من ذوي الدخل المحدود وتنزل كماء منهمر لتعطي أكلها بعد حين وتظهر جودتها ومردوديتها وتكون لهم وليس عليهم مع مبدأ المسؤولية والمحاسبة طبعاً وأسطر على المحاسبة، وليس عفا الله على ما سلف إن كنا فعلا جادين بقطع كل سبل الخطابات العشواء المملة المثيرة للغثيان والقطع مع عقلية الراعي والقطيع…

الإصلاح تصويب وتحسين وتعديل وترميم وضبط، وهو من المصطلحات الأكثر استخداماً في الاحتجاج والتنديد، إلا أن هذا المصطلح ما زال مقيداً لدى كثيرين من دعاة الإصلاح، وهو جهد جماعي لا يمكن أن يقوم به شخص واحد إلا إذا كان نافذاً يمتلك قوة مؤثرة في قراره، وقد يكون الإصلاح بالدعوة الملحّة لاختيار المسؤولين وتوزيع المسؤوليات واعتماد مبدأ الكفاءة وقياس مستوى الخبرة، وقد يكون الإصلاح كذلك بمحاربة من ينتهك كرامة المواطن ويستخف به ويقصيه ويتطاول عليه، وقد يكون بالسعي لتمكين قيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص ومناهضة الاستبداد والتهميش، وقد يكون برفع راية ذوي الكفاءة وتشجيعهم والتنويه بهم، وعلى الدولة اليوم وقبل أي وقت مضى، ترميم ما تبقى من هيبتها ومصداقيتها التي كان موظفوها الكبار و(هُدَّامُها) ولا يزالون، هم أول من استعمل فيها معاول الهدم والتخريب، وإن لم تفعل ذلك على عجل، فسيكون غدها أسوء من يومها، حينها سيعاقبهم التاريخ على الإساءة في حق وطنهم وفي حق شعبهم، وللأيام القادمة نفاذ القول والعمل…

إن الرهان على أحزاب ضمّت إليها الجهلة والأميين وسماسرة الدمادم والطبالين الذين لا يصنعون للوطن مستقبلاً، ليقرروا مصير الشعب فثبت فشلها، هو إهدار للوقت والجهد والمال وإعادة إنتاج الأزمة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

أيها القارئ العزيز أنت تستعمل إضافة لن تمكنك من قراءة مواد و مقالات الجريدة العربية . المرجو تعطيل الإضافة , شكرا لك .....