أعمدة الرأي

النخب الشعبوية …

بقلم الاستاذ إدريس زياد

تثير الشفقة تلك النخب الشعبوية حينما تتحدث عن الحريات العامة والعدالة الإجتماعية والمساواة وعدم الإقصاء، وهي تمارسه أو تسكت عنه في قضية وتعارضه في أخرى، وتستمتع بمشاهد الإستبداد وتعززها وتدعي الدفاع عن الحقوق والحريات والتقدم والإنسانية، فما يربطها بالكراسي والباطرونا هو عشرة أضعاف ما يربطها بالمواطن المقهور والدفاع عنه، فالنخب بتنوعها ومعها بعض النخب تلك التي تولت مؤسسات إعلامية وثقافية هي الأخطر نتيجة رماديتها ومعرفتها بعض التفاصيل عن قرب، لامتلاكها ايديولوجيا، واعتمادها على محاور، واعتماد الإستبداد عليها، تصبح هي من تبرر الخطاب الإستبدادي وهي أول من تشرعنه مقابل كرسي قرب الباب في وزارة أو مقعد برلماني ينتهي بفضيحة أخلاقية أو مالية، وبفعل غبائهم واستخفافهم بالمسؤولية أصبحوا في مواجهة مباشرة مع الشعب…

شأن الأحزاب القوية الواثقة أن تضم إلى صفوفها كل كفاءة مقتدرة، ثم تختار مقدّميها بحسب التحديات التي تواجهها، فيتقدم السياسي المحترف إذا كان التحدي سياسياً، ويتقدم الإعلامي إذا كان التحدي إعلامياً، والإقتصادي والإجتماعي والثقافي…دون أن يتغول أحد على أحد، وينتظم الجميع لأجل التحدي المشترك حتى يتجاوزوه معاً، فإن بغى بعضهم على بعض، ولم يقدّروا أوزان تحدياتهم وترتيباتها وأولوياتها، ولم يقدّموا الأكفأ، فقد آذنوا بالفشل، ويل لأشباه ساسة يدمرون وطناً يحتاجون أن يعيشوا فيه هم وأولادهم وموالاتهم دون غيرهم، فبفعل تهورهم واستخفافهم بمسؤلياتهم اختاروا وضع أنفسهم في مواجهة ضعفاء هذا الشعب وقرروا البقاء في معارضة دائمة لفقرائه، ليس هناك من خيار سوى انزواء وتواري هذه الوجوه الممسوخة الشاحبة لنخب أدمنت الفشل، حتى لا يتكرر فشلها، اللهم إنا نعوذ بك من الذين ينعقون مع كل ناعق، ويميلون مع كل ريح، فليرحل سماسرة الوطن وباعة الذمم…

الأحزاب السياسية دورها تنظيم الجهود وتطويرها وفق خطط تصب نحو الهدف، وليست قوالب لصب العقول ضمن أطر محدودة، فكلما أعطت مجالاً أوسع لإعمال العقل والإجتهاد والإختلاف والنقد كلما حافظت على ديمومتها وعلى طاقاتها المتمثلة بالعنصر البشري المبدع، وهذا أصل التنظير الحزبي في الإطار الإجتماعي، لكن بعض المفاهيم الحزبية في بلادنا قد تحولت إلى منظومات حديدية مقفلة رغم عدم الحاجة إلى ذلك، فمِن العسير على العقل المبدع أن يجمع بين قناعاته الفكرية المنفتحة، ورؤاه المتجددة من جهة، وممارساته الحزبية المقيّدة المفروضة عليه من جهة أخرى، لاسيما إذا تكاثرت الأخطاء في المسالك الحزبية وانسدّت سبل المشاورة والمعالجة، وفي نهاية المطاف إما أنه سيخسر عقله بتدجينه وإكراهه على التزام القيود الحزبية، وإما أنه سيخرج من عباءته بالتدريج ومراكمة السخط وتفاقم النقد، ولربما قُبيل استقلاله وانحيازه إلى عقله ستُمارَس عليه معاملات قاسية داخل حزبه، ولكنها قد تكون القسوة التي ستُنضِج أفكارَه، وتمنحها أفضلية القدرة على فهم بيئة الأفكار الطاردة والجاذبة والمحايدة في مختبر عملي ميداني حتى يتهيّأ له الإستقلال المتجرّد…

من الصور الخفية لخيانة الأمانة عند الأحزاب، أن تغير القوانين الداخلية وتكولس لتقدم مرشحاً كل مرة لمنصب أكبر من قدرته على النهوض بأعبائه، فإن وصل ضاع وضاع معه الناس، وقد يكمن المشكل في اختطاف هذه الأحزاب من قبل مجموعة متنفذة متحكمة من الشيوخ الهرمة على جميع الأصعدة المركزية والجهوية والإقليمية، فهي من تصنع الفساد لتثبيت سلطتها وهيمنتها، والخطير في الأمر أن هؤلاء ربطوا بقاء هذه الأحزاب بوجودهم، هذا المشهد حوّل مسألة الإصلاح إلى معركة صفرية بين أبيض وأسود، فإما أنا على رأس هذا الحزب على حالته دون تغيير في أركانه وهياكله، أتلوّن وأتلوّى مع متطلّبات أبناء الشعب الفاقد أصلاً لمصداقية الأحزاب بصفة عامة، أو يأتي الطوفان بعدي، فالحل الأكثر واقعية والأقل تكلفة، يتطلب أن يحتكم المتربعون على عرش الأحزاب إلى قرار القواعد، فإما أن يفوضوا لهم أو يطلبوا منهم الرحيل، لماذا يرتبط وجود الأحزاب بأشخاص بعينهم، ماذا أنجزوا لمنح أنفسهم مزيداً من التزكيات لإكمال نهبهم وفسادهم، فإن كانت هناك نية للإصلاح لماذا تفرض على القواعد الحزبية مرشحاً حديث الإنتماء تتم تزكيته بطرق ملتوية؟

الإنتماء السياسي اليوم، وكأنك تائه في الخلاء المفتوح والصحاري الممتدة والسلاسل المتشابكة الطويلة، حيث لا طرق معبدة، ولا إشارات دالة، ولا معالم واضحة، فكأنك مهدد بالضياع، إذ تفقد البوصلة، ولا تعرف سبيلاً للوصول إلى المكان المقصود، وإذا كنت في هذا الوضع فإنك لن تراعي القوانين أو تلتزم بها، بل لا توجد قوانين أصلاً، فكأنك راكباً سيارة بلا أضواء، كما أنك لا تتوقع أي فزعة على الطريق لأنك لا تعرف كيف وصلت إليها لأنك بلا عنوان، كما أنك لن تستطيع أن تبقى حراً في اتخاذ قرارك لأنه لا يمكنك أن تقف أو تسرع أو تدور أو تناور، لأنك وحدك في حيرتك المنغمسة في الخوف من المجهول، ربما ستتبع سبلاً لسابقين إلى هذا الوضع سلكوا دروباً، لكنك لا تعلم إن كانوا قد خرجوا إلى بر الأمان أو أن الطريق الشاق أهلكتهم ودفنتهم في غياباتها، أو أنها ما تزال تدور بهم إلى الآن في دوائرها، تخيل نفسك وأنت في هذا الخلاء المجنون بلا برنامج ولا خطة، خلاء يسيطر عليه قانون الغاب، محفوف بالمخاطر والأوهام والإشاعات، مشحون بالضغينة والكيد، وأنت مثلك مثل كثير من تاهوا في الخلاء السياسي لا يملكون معطيات ولا معلومات ولا يعلمون كيف تُقرر القرارات رغم أنهم في قلب الحدث…

أجد هذا التعريف الذي قدمه ماكس فيبر للحزب السياسي وافياً بتحديد أهدافه:
“الأحزاب السياسية جمعيات تقوم على التزام حر شكلياً، هدفها إيصال زعمائها للحكم في تجمع، أو مدّ مناضليها النشيطين بحظوظ مثلى أو مادية لمتابعة أهداف موضوعية أو الحصول على امتيازات شخصية أو تحقيق الإثنين معاً”

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

أيها القارئ العزيز أنت تستعمل إضافة لن تمكنك من قراءة مواد و مقالات الجريدة العربية . المرجو تعطيل الإضافة , شكرا لك .....