ثقافة و فن

النقد المباح …

بقلم الأستاذ إدريس زياد *

النقد هو وصف للتصرفات السلبية والإيجابية بطريقة سلسة ترمي إلى التصحيح والتصويب في حال ثبوت الخطأ، وهو فن تمييز جيد الكلام من رديئه وصحيحه من فاسده وإظهار ما فيه من الحسن والقبيح، أما الإنتقاد فهو تصيّد مقصود للأخطاء هدفه إظهار السلبيات والتشويه، والناقد إن أثقل ولم يتوقف فما هو بناقد، بل هو باحث عن ذاته تحت ركام العجز، والناقد مصلح لطيف وما لا يبلغه بلطفه لن يبلغه بخشونته، وليس الناقد بمعصوم فإن ألح ولم يرض إلا بقبول رأيه، فهو مريض لا يصلح له رأي ولا يؤخذ منه، ليس كل نقد مقدس، وليس كل نقد صائب والعكس صحيح، أما أن تحمل سيف النقد وتضرب به كل من لا يوافقك الرأي فأنت تبحث عن صنمية لذاتك، فكثيرون من لديهم مشاكل شخصية قد يلجؤون لرفع سقف النقد في كل شيء فلا تكاد تجد لهم إلا بحثاً عن كل نقيصة أو تكبيراً لأي صغيرة، مثل هؤلاء لن تستطيع اللحاق بهم ونقاشهم أو موافقتهم في كل رأي، وعلى المرء أن يحْذر من تحليلاته وظنونه تجاه الآخرين، فالحقائق ترتبط بالأدلة والإستنتاجات المنطقية، وليست متعلقة بالترجيحات والإضافات التي تملأ فيها فراغاً.

هدف النقد بعد النية السليمة هو تقويم الخطأ وإصلاحه، فإن تحول النقد إلى النيل من الآخرين والترصد لهم، يصبح فلسفة فارغة ونشر غسيل، فلا يتقن النقد إلا صاحب بصيرة، والنقد وسيلة لتغيير واقع، ومن المتوقع أن يجد له آذاناً صاغية في حال كان المنتقَد حصيفاً ولماحاً وغير مكابر، والناقد يرى من زاوية والمنتقَد يرى من زاوية أخرى، وسيأتي ناقد آخر ينتقد الناقد والمنتقَد، فما الضير في النقد ما دامت المقاصد مخلصة للوصول إلى الصواب ولدى الناس من الحكمة ما يميزون بها بين الغث والسمين والكمال لله وحده، قال عمر رضي الله عنه: “رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي”

أغلبنا يَجرحه النقد، ويُحرجه، ويغضبه، وقد يُتعسه، إلا أنه مجرد كلمات مجانية يجب أن توضع في الميزان البارد، فما رَجح يؤخذ به، وما هبط يُنفخ هباءه، ولا تُحتسب دقائق عبوره السريع، لكن هل هو نقد سالب أم موجب؟ هل هو نقد مفيد، أو ضار، أو لا يستحق الوقوف عنده؟
ربما يكشف النقد مقدار المرض الذي يُتعس الناقد لصاحب الفكرة وليس للفكرة، والدوافع لهذا، فيعمل المنتقَد على علاجه أو تنفيسه أو بتره أو الإبتسام له والإعراض عنه، فليس كل نقد كشفاً للمنتقَد، إذ كثيراً ما يكون مرآة تكشف المنتقِد، والنقد عملية تمييزية لها أطراف منها الناقد والمنقود ومادة النقد وبيئة النقد ووسيلته ثم صدى هذه العملية، والجانب الشخصي يصرف العملية عن اتجاهاتها ويجعل لها مفاهيم أخرى، ولهذا يأخذ لفظ النقد سمعة سيئة من خلال هذه الأهواء الشخصية المسدلة عليه، وهذا التمييز في الأساس محايد، لكن عملية النقد تُستخدم فيها جوانب انتقامية تؤثر على سمعة العملية بإضافة أبعاد شخصية إليها.

أخطاؤنا المنهجية في النقد تجعلنا لا نميز بين الفكرة وصاحب الفكرة، فنوجه النقد لصاحب الفكرة ونترك الفكرة، وفي رأي الكثير أنه ليس خطأ منهجياً في النقد لأنه يوجه لصاحب الفكرة، لأن الفكرة الخاطئة تنبع من فكر وقلب صاحبها، فالنقد القرآني للمنافقين كان نقداً لأمراض أصابت قلوبهم فنبعت منها أفكار التيه والضلال، ما جعلهم يستدلون ويؤكدون بأن الأفكار خاطئة وظاهرة والخلل هو في قلوب قائليها، ولأن النقد موجه للمنافقين كمجموعة وليس كفرد بدون أسماء، فلا ينطبق على بعض المنشورات التي تتحدث عن مناقشة أو مواجهة لمتناقشين يعرفان بعضهما، أو يتواجهان في مواقع ما، إذن لا يجوز أن نترك الفكرة ونشتم صاحبها.

فكلما ذُكرت كلمة النقد بدأت التحفظات تهجم عليها حتى باتت هذه الكلمة في قفص الإتهام، هذا الموقف التشكيكي من النقد ليس بريئاً، ولا يُنبئ عن حكمة، ويتأسس على عاطفة غريزية يخاف فيها المرء من ضياع نفوذه، ثم يتلبّس الموقف بأثواب الحكمة والعقلانية لتبرير رفضه وإبعاد الناقدين بشتى الطرق والوسائل، والنقد في حد ذاته ليس هدماً، ولا موتاً، وليس تنفيساً عن حقد أو حسد أو مرض نفسي، النقد ليس مشكلة إنما المشكلة في وسيلة عرضه، وهذه مسألة شكلية في الأساس، لكن الإشكال الأكبر في طريقة التعامل معه، والنقد الصادر عن خبرة وفهم لذة يستشعرها المخلصون في نقدهم، كما هي لذة يستشعرها المنقودون الحريصون على تمام الأمور وأداء الواجب على أكمل وجه، فكل مسؤول يجب عليه أن يفتح صدره للنقد وينفتح عليه بكل شفافية، وأن يتحمل طرائق توصيله، ويقدم العذر في ذلك إذا كان حريصاً على مصلحة وطنه.

وتبقى العلاقة جدلية بين الناقد والمنقود، كلاهما يؤثر في الآخر، ليرتقيا فكراً وأدباً، فالنقد تنوع للآراء والأفكار، يضفي جمالاً على كل شيء، تخيلوا لو أن كل الناس بنفس الأفكار أو الذكاء، تخيلوا لو أنه لا يوجد في العالم من أنواع النباتات إلا لون واحد، أو أن الحمار هو الحيوان الوحيد على هذه الأرض، النقد اختلاف في وجهات النظر لخلق التوازن، والإختلاف نعمة من نعم الله، فلماذا نضيق ذرعاً بالنقد !
فكثير من الناس يفضلون أن يقتلهم المدح والنفاق على أن ينقذهم النقد، كما أن الإستفادة من النقد ضرورية من جهة من هو في المسؤولية، وأخذه بها ضروري ولو لم يُعلن للناقد الأخذ به، فأصحاب النقد البناء على ثغر من ثغور الإصلاح، وفي غياب النقد غياب للشفافية، والنقد نصيحة والنصيحة من الإيمان والدين كما جاء في الحديث العظيم: (الدين النصيحة).

ليس النقد مجرد كلمات مركزة أو فضفاضة يصيغها الناقد الهاوي، أو ناقد النصف، أو المبتدئ، أو المتطفل، بل النقد الهادف العميق هو إسهام حيوي جوهري في بناء الهوية الثقافية والوطنية، أو إعادة ترميمهما، إذا ما كانتا قد تعرضتا للتآكل أو القضم، في سبيل إعادتهما إلى سيرتهما الأولى أو أجمل، وهذا هو الطريق الحقيقي المنحوت في الصخر الأصم، الذي يعمر قروناً دونما أي ثلمات أو ارتكاسات.


*الأستاذ إدريس زياد، كاتب و مدون مغربي ، أشتهر بتناوله للمواضيع التي تهم الشأن اللغوي و الثراث المغربي الأصيل .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

أيها القارئ العزيز أنت تستعمل إضافة لن تمكنك من قراءة مواد و مقالات الجريدة العربية . المرجو تعطيل الإضافة , شكرا لك .....