فضاء المرأة

بمناسبة عيد المرأة نذكر الرجال بأن “الجنة ما زالت تحت أقدام الأمهات” …

الجريدة العربية – إدريس زياد

الأم في البيت هي البيت، ضحكه وأنسه، مصباح ليله وشمس نهاره، فإذا غابت أظلم وأوحش، جمال ثوبها السابغ المطرز بغصون التاريخ يصرخ بكل عيون الأمل الحالمة، ونقاء وشاحها الملتاث على استدارة وجهها يتشبث بصفاء السريرة وسلامة القلب، ومتانة حزامها المشدود إلى وسطها حبل صبر جميل حرسنا وحرص علينا بعزيمة قوية وبصمود ونحن ضعفاء على رصيف التعلم…

الأم ليست مجرد مربية، الأم لديها سجل طبي كامل لكل واحد من أبنائها تحفظه عن ظهر قلب، تجلس معها فتحدثك عن تاريخ تناول ابنها البكر لأول طعام، تحدثك عن اليوم الذي بدأ فيه ابنها الثالث بالحبو ومشى أول الخطوات، والسنة التي كسر ابنها الثاني أول كأس، والعام الذي أصيبت فيه ابنتها بمرض “بوحمرون”، والصيف الذي تم فيه ختان فلان، تحفظ جميع تواريخ ميلاد أبنائها قلة كانوا أم كثرة والظروف التي ولدوا فيها، كان يوماً ماطراً أم كان يوماً مشمساً، لا تزال تحفظ حتى أسماء القابلات اللواتي وقفن إلى جانبها يوم الولادة، بشوشاً كانت أم عبوساً، ومواقفهن جيدة كانت أم سيئة، لا تزال تحفظ حتى اليوم الهدايا التي وصلتها بالمناسبات والأعياد، هذا جلباب من الصوف من بقايا جلباب والدك نسجتها عمتك فلانة لأخيها أي والدك، وهذه بطانية من العمة فلانة، وتلك طاقية خاطتها خالتك وأهدتها لك في عيد من الأعياد…

عش مع أمك عالمها كلما سنحت الفرصة، فلن تندم، أتكلم عن أمهات الحنان العظيم الذي أحنى ظهورهن تعب السنوات العجاف التي لم تمطر إلا القلق والوجع، أولئك اللواتي لم يمن عليهن الزمن سوى بشبكات التقاطع وليس التواصل الاجتماعي، عن الملكات اللواتي أفنين زمنهن المقدس ولوعة أصواتهن وهنّ يرددن ما تيسر من أدعية ممزوجة بمواويل موشومة في ذاكرتهن، قلقهن الذي يعبر المسافات، وهن يسألن عن أحوالنا وصحتنا وأكلنا ونومنا وقهرنا وكل ما تجود به قلوبهن المكلومة، أولئك الأمهات المتربعات على عرش الأمومة أكتب، أمهاتنا اللواتي تخجلن الخجل المهيب من الصور والسيلفيات ولا تقبلن أبداً نشرها على هذا الفضاء الأزرق، هن اللواتي ما تعودن إظهار وجوههن للغرباء كي لا تصبحن فرجة للآخرين على حد تعبيرهن، اللهم أطل في أعمارهن وارحم من أدركتهن المنايا…

هي امرأة لم أرَ الغضب يوماً يتملكها، لسانها دائماً يلهج: “الله يرضى عليك، وييسر أمرك” امرأة من ذهب، عذبة كالصَّبا، صبور كالنهر لا يُغيّر مجراه، دؤوب كالنحلة، كفّها نَدّ، ووجهُها قُدّ من سبُحات النور، إن غبتَ آوتك في مآقي عينيها، وإذا حضرتَ غيَّبتكَ في حضْنٍ جنة، فسيحة البال، أمي، رحيبة الحب، نادرة الحنان، مليئة الخاطر دفئاً ومَرحمة، وكلّها لا يتسع لذرّة من كِبْر، أو نزغة من كراهية، تقول عن المغتابين الله يسامحهم وعن المنافقين الله يعافيهم ويعفو عنهم، وتردد دائماً الخير فيما اختاره الله، ما عرفتُكِ إلا أمّاً خالصة، أطال الله في عمرك، أحبك بحجم نقائك وصفائك، بحجم تلك المشكلات التي تذهبيها عني، أحبك بحجم تلك الابتسامة التي ترسميها على وجنتي حين حزني، وبحجم تلك الكلمات التي تواسيني بها عند ألمي، تتوق أحرفي لخط كلمات تعبر بها عنك، وتخجل تلك الأحرف من وصفك فطيبتك يا أمي لا توصف، أستدعي الحروف لأصف بها حنانك، وأقف عاجزاً أمامك، وتقف كلماتي عاجزة عن وصفك، أعصر أفكاري وأنثر مشاعري وأبعثر أحاسيسي، لأكتب كلمات أعبّر بها عما يجول في خاطري…

بكى رجل في جنازة أمه فقيل له: وما يبكيك ؟
قال: ولِمَ لا أبكي وقد أغلق باب من أبواب الجنة.
فاغنم ما استطعت قبل أن يحول بينك وبينها الموت.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

أيها القارئ العزيز أنت تستعمل إضافة لن تمكنك من قراءة مواد و مقالات الجريدة العربية . المرجو تعطيل الإضافة , شكرا لك .....