في رحاب الصداقة …
بقلم الأستاذ إدريس زياد *
يجب أن تعرف صديقك من عدوك، من يتمنى لك الخير في العلن ويبطن لك الشر في السر، من يبتسم في وجهك ويمكرك في ظهرك، من ينتظر سقوطك ومن ينبهك قبل السقوط، فعدوك يجالسك ويتظاهر بحبك، يأكل معك على مائدة واحدة، لكن في نهاية المطاف هو مجرد مخادع ومخاتل، والأيام وحدها والمواقف كفيلة بمساعدتك على التفريق بينهما ومعرفتهما، لا تكن ساذجاً، مبالغاً في الطيبوبة، لا تخدعك المظاهر فالبواطن أخبث مما تتصور، ففي الصداقة الحقيقية تكون الأرواح ملتحمة ومتناغمة في انصهار كلي، أما الصداقة السطحية والتي لا تستحق اسم صداقة فهي ليست أكثر من معارف وعلاقات اعتيادية مرتبطة بمصادفة أو شئ من الإستقرار…
الصداقة غالية الثمن ليس بوسع أي شخص دفعه إلا أصحاب الإرادة القوية، وليس غريباً أن تجد أناساً يتربعون على قمة الإخلاص وسنامه، ويحتلون مقاعدهم في علياء عروش القلوب، أولئك بلا شك مخلوقون من مسك وطيب ونور، حينها ما عليك إلا أن تتضرع إلى ربك أن يحفظهم، ويبارك فيهم ولهم وعليهم، ومن الناس من يغتال آمال القلوب، ويحجب عنها نور الهدى الذي يداوي فيها الجراح، ويتيح للأحزان فيها ما لا يُتاح، ومنهم من هم لأنفسهم ولغيرهم البلسم والترياق، فوجودُهم في قلوب الآخرين كمشكاة فيها مصباح، ولا يصبح القلب ترياقاً إلا بعد مجاهدة، ولا يجاهد القلب إلا بإخلاص وتقوى ويقين، ولا يملك ذلك بغير وعي وإدراك…
أما إذا اجتمعت لك صحبة متناظرة الأرواح، متشاكلة الطباع، خفيفة الظل، مرحة الطلّة، بريئة الصلة، فطوِّقْها بمنتهى بصرك، ومجال مسمعك، ودافئ فؤادك، فهم نقاوة نجومك التي تتزين بها سماؤك، وقوادم ريش طيورك التي تخفق أجنحتها تحية لك، إنهم صحبة خالصة عركتها التجربة القريبة، يبتدرون النفقة قبل السؤال، ويبذلون البسمة في الملتقى، ويتعاهدون بعضهم في خفاء، ويتشاركون أحوالهم بعطف واستحياء وشجاعة، ويتنافسون في تقريب ظلالهم، يمازحون بأناقة جريئة، ويتحفظون بملاحة لطيفة، ويتنقلون في أحاديثهم بين الجد والهزل، والإمتاع والإفادة، والصخب والخشوع، والظل والسطوع، والشقاوة والطراوة، كأنهم المسك المشموم، والعبير المنفوح…
أطفال في معاملاتهم البريئة ومراياهم المكشوفة على بعضهم، يستلّون من صدرك همّاً كاتماً، ويُخرجون من فمك ضحكة مخنوقة، ويقسّمون وجنتيك براحة مبسوطة، يرغمونك أن تظل كما أنت، جميلاً كيفما كنت، عشرينياً أو خمسينياً، شابّاً أو متشبّباً، يحبون بصدق مودود، ويلتقون بتجرد ممدود، ويقفون وقفة رجل قوي شامخ مسنود، أسأل الله أن يديم الود، ويوثق الرابطة، ويملأ القلوب بنوره الذي لا يخبو، دمتم مصابيح هدى، ينير الله بكم الدّجى، ويبلسم بكم القلوب البائسة المحزونة.