مجتمع

الرجال لا تحترق مرتين .

الجريدة العربية – لحسن كوجلي

خرج كثير من الخلق لقاء ما يعرفه الحال هذه الأيام من اشتداد في درجة الحرارة و أمواج الشركي ، يمضون في الصراخ و النواح كل حسب طريقته، في السر أو العلن، في المباشر أو من على جداريات المواقع التواصلية ، حتى وإن كان جلهم يملكون من الإمكانيات وفرص الوقاية، ما يوقيهم من هذا الحر، من ماء بارد للشرب، وبيوت للاختباء، وأشجار للظل، و أودية وبحيرات وبحار للاستجمام، عكس شريحة مجتمعية أخرى لا يهتم بها أحد، ولا تملك لنفسها الحق في التعبير وإبداء الرأي، مهما اشتد عليها الوضع، هي شريحة خلقت فقط لتقديم التضحيات إلى أن تشيخ أو تموت. إنهم حماة الوطن، حمالة السلاح بأدغال الصحراء المغربية .

أتذكر وأنا صبي في التاسعة عشر ربيعا، كيف كنت أقضي فصول الصيف، بتخوم فيافي صحراء التويزكي، قبالة معسكر العدو بتيندوف، حيث تكون الطبيعة أشد فتكا من شراسة العدو الطبيعي، وحيث يكون الرصاص أرحم من لسعات العقارب ولدغات الأفاعي المجلجلة، وحيث يكون الله تعالى وحده هو الرحمان الرحيم .

في مثل هذا الموقف الذي يصرخ فيه المواطن و المواطنة من شدة الحر، و إلى جانبهما قنينة مياه بادرة، وصنبور يغتسلان منه، وبيت واسع يتنقلان بين أرجاءه، وسقف بيت يصعدان إليه ليلا للاسترخاء، كنت في المقابل أتلوى في جحر من حجارة غير متراصة، ومن سقف بأعمدة خشبية معوجة وقليل من القش الفاسد، إلى جواري قنينة ماء قمت بتغليفها بجزء من بقايا أحد أقمصتي، أظل أرشها طوال الليل بقطرات من الماء علها تمتص قليلا من الرطوبة.

يوم صيفي بنواحي أسا الزاك يساوي مقدار سنة مما تعدون، يوم لا ينتهي، ليله كنهاره، عذاب متواصل 24/24، لا أم ولا أب يخفف عنك الأهوال، ولا من يحميك من مخاطر ظواهر الطبيعة والعدو، شمس تصعد من فوق رأسي، وتغيب على مقربة من قدمي، تشرق وتغيب بالقسوة نفسها، بما تجعلني أقتلي طوال النهار، أتلوى في جحري كما ينقلب الدجاج المشوي في الفرن، لا يمنحني قسطا من الهدوء إلا حين أملك لترا من الماء الزائد، أضعه في قنينة جافيل، أثقب غطاءها على شكل المرشة، أسكبها على بدني نقطة نقطة. وفي الليل حكايات أخرى لا تنجلي، أجواء مقيدة، سكون إلا من حركة العقارب والأفاعي، وصوت البنادق والمدافع، كان من أشد ما يقلق راحتي، هول العقارب، كانت تجري في كل مكان كالنمل، تفسد علي راحتي، وتشتت تركيزي، وقد كانت لي معها تجربة المواجهة، يوم لسعتني بينما كنت بصدد بناء جانب من محل سكناي، تركت في أحشائي سما لأسبوعين أو أزيد ، شل خلالها أصبعي الوسطى، كان جسدي كله يهتز بمجرد أن المس أي شيء، كانت تجربة قاسية، رغم ما لقيته من عناية طبية.

شداد حر الصحراء و عصارته ، من أصعب التجارب التي لقيتها في الحياة، كان لوحده كافيا بأن يبعد عن نظري كل محاسن الدنيا، وينسيني فضائلها، ويترك في ذاكرتي أثرا قاسيا يصعب على الدهر محوه وإزالته عني حتى ولو أملكوني نصف أرض الصحراء، ذهبها وغازها وفوسفاطها وثروات بحرها…

مع ما يجري حاليا من حر، يجدني أهلي و كأني أبعد الخلق مما يعيشونه من ضغط، أستلقي مرتاح الضمير والجسد، أكابر عن إظهار الضعف، يسألونني عن سري في الصمود، أقول “إن الرجال لا تحترق مرتين” …

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

أيها القارئ العزيز أنت تستعمل إضافة لن تمكنك من قراءة الجريدة العربية . المرجو تعطيل الإضافة , شكرا لك .....