أعمدة الرأي

المحافظون يتصدرون المشهد السياسي في ألمانيا: بداية عهد جديد؟

الجريدة العربية – عبد الله مشنون*

في ليلة انتخابية صاخبة، ترقبت ألمانيا النتائج التي ستحدد وجهتها السياسية للأعوام القادمة. وسط أجواء مشحونة بالحماس والتوتر، أعلن فريدريش ميرتس، زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي، عن فوز تكتله في الانتخابات التشريعية، معلناً بداية فصل جديد في تاريخ البلاد.

وقف ميرتس أمام أنصاره محاطا بوهج الأضواء وأهازيج المؤيدين، معلنا أن ألمانيا تحتاج إلى حكومة قادرة على التحرك بسرعة وحسم، حكومة تدرك أن “العالم لا ينتظرنا”. لم يخفِ الرجل عزمه على تشكيل حكومة قوية، لكنه في الوقت نفسه قطع الطريق أمام أي تحالف مع حزب “البديل من أجل ألمانيا”، مشيرا إلى أن التحديات المقبلة تتطلب استقرارا سياسيا بعيدا عن النزعات المتطرفة.

وعلى الطرف الآخر من المشهد، بدا المستشار الألماني أولاف شولتس كمن يتجرع مرارة الهزيمة، مُقرا بأن نتائج حزبه “الديمقراطي الاجتماعي” كانت الأسوأ في تاريخه. بعبارات مقتضبة وحزن جلي، ألقى كلمته التي اعترف فيها بتحمله مسؤولية هذا التراجع المدوّي، في مشهد يعكس نهاية فصل سياسي وبداية آخر غير محسوم المعالم.

غير أن المفاجأة الكبرى كانت في الصعود غير المسبوق لحزب “البديل من أجل ألمانيا”، الذي قفز إلى المرتبة الثانية متجاوزا الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ما يطرح تساؤلات عن التحولات العميقة التي تجتاح مزاج الناخب الألماني. إنها إشارة لا تخطئها العين إلى تزايد الاستقطاب، حيث تصاعدت أصوات اليمين المتطرف مدفوعة بمخاوف اجتماعية واقتصادية تعصف بأوروبا.

وراء هذا الصعود، يكمن خطاب سياسي مشبع بكراهية الآخر، خاصة تجاه المهاجرين الذين يُحملهم اليمين المتطرف مسؤولية جميع الأزمات الداخلية. يعتمد “البديل من أجل ألمانيا” على أساليب غير إنسانية، تتراوح بين تأجيج مشاعر الخوف ونشر الدعاية المناهضة للأجانب، وصولا إلى محاولة فرض سياسات تمييزية تقوض مبادئ التعددية والتسامح التي قامت عليها ألمانيا الحديثة. من خلال استغلال التحديات الاقتصادية والأمنية، يحوّل هذا الحزب القلق الشعبي إلى أداة لتعزيز أجندته العنصرية، متجاهلا القيم الديمقراطية التي شكلت العمود الفقري للمجتمع الألماني منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

نسبة المشاركة في هذه الانتخابات بلغت 83%، وهي الأعلى منذ إعادة توحيد ألمانيا، ما يعكس وعيا سياسيا متّقدا وإدراكا عاما بأن البلاد تقف عند مفترق طرق حاسم. أما الحكومة المقبلة، فأمامها مهمة معقدة في تشكيل تحالف يضمن الاستقرار دون أن يفرط في المبادئ. ميرتس قد يجد نفسه أمام مفاوضات عسيرة مع الاشتراكيين أو ربما حتى الخضر، إذ لا وجود لحسمٍ مريح في هذه الانتخابات.

ووسط هذا المخاض السياسي، لم تغب الأعين الدولية عن المشهد. فقد راقبت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الانتخابات عن كثب، في خطوة تعكس الاهتمام الأوروبي والعالمي بالمستقبل السياسي لألمانيا، التي تمثل حجر الزاوية في استقرار القارة.

ما حدث في ألمانيا ليس مجرد انتخابات تقليدية، بل هو زلزال سياسي قد تكون ارتداداته طويلة الأمد. ماذا سيحمل الغد؟ هل يتجه المشهد إلى استقرار هش أم أن مفاجآت أخرى بانتظار أوروبا؟ لا أحد يملك الإجابة الآن، لكن المؤكد أن ألمانيا بعد هذه الليلة ليست كما كانت قبلها.


* كاتب صحافي ومدير النشر بالمنصة الإعلامية إيطاليا تليغراف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى