ارتقاء شعب غزة الأعزل …
بقلم الاستاذ إدريس زياد
من أعجب ما وقفت عليه في محاولة فهم الأخبار المتسارعة، أن غزّة حيّرت وأربكت معظم المحللين العسكريين والإستراتيجيين، فبعض المحللين يُشبه غزة بفيتنام ويستدعي كل مغالطات الحرب الأمريكية الفيتنامية وكيف هزمت أمريكا هناك، ثم يأتي آخر ويشير إلى أخطاء الجيش الإسرائيلي في بيروت 1982 وكيف يمكن أن تكون نتائج تكرار تلك الأخطاء، ثم يأتي آخر ليذكّرنا بهزائم أمريكا في الحرب على أفغانستان منذ عام 2001 وكيف عادت طالبان للحكم بعد سنين من سفك الدماء، وقد نجد من يستحضر كيف صمدت جنين في سنة 2002 ولم تنجح كل المحاولات الإسرائيلية لإخضاع المخيم، ولعل أكثر ما يستحضره المحللون، معركة الفلوجة عام 2014 وهي المعركة الأكثر دموية في حرب العراق وبعدها معركة الموصل عام 2016، وهناك محللون يتحدثون عن الحرب الأوكرانية الروسية ويشبهون غزّة بـالمعارك التي حصلت في باخموت وماريوبول في أوكرانيا، ثم تجد بعد كل هذا من المحللين من يقول ليست الفلوجة ولا الموصل ولا بيروت، ليخبرنا بأن غزة أصعب من الفلوجة ومن بيروت، كل هذا طبعاً غير الطرح القديم الذي كان يزعم أن تحويل غزة إلى “سنغافورة الشرق” سوف ينهي كل الصراع والطرح الجديد بقصف غزة كما قُصفت مدينة درسدن عام 1945 ومسحها عن الأرض، فيجعلنا نفهم أن غزة أكثر بكثير من حدودها وجغرافيّتها وستكون هي “الدرس” الذي سيدرس يوماً ما في أكبر الجامعات والمعاهد العسكرية…
لقد استخدم الصهاينة كل قوتهم الجوية والبحرية والبرية في الحرق والتدمير، لقد فتحوا كل الطرق أمام جيشهم بالنار، من تفجير وتجريف ليحفظوا سلامتهم وليؤَمّنوا حياتهم، فما بال هذه الأرض تنقلب عليهم بخروج أهلها من باطنها، حاولوا بكل قوتهم أن يثبتوا تحكم جنودهم في الميدان، بعثوا مراسليهم العسكريين لبث صور ترفع معنويات شعبهم، فلم يسلم المراسلون ولم تسلم الكاميرات، وحدها كاميرا القسام التي بات شعب الصهاينة الغزاة يصدقها وهي تبث صور هزيمتهم واعتلاء المقاومة دباباتهم وآلياتهم، حاولوا بكل ما أوتوا من قدرة على قلب الحقائق كي يثبتوا لشعبهم أنهم يحققوا الإنتصار هناك، فيطل عليهم بين الفينة والأخرى أبو عبيدة رضي الله عنه ليقلب الطاولة على كل أكاذيبهم، ويظهر لشعبهم وللعالم أن الصهاينة كاذبون وجبناء، ولم يترك لهم أن يخرجوا بمشهد يرقع صورة الجيش الذي لا يقهر، بل يثبت في كل مرة أنهم الجيش الذي يتقهقر، لقد مزق صورة هيبتهم أمام العالم، لقد فضح عوراتهم وكشف سوءات أقوى الجيوش في العالم، كيف لهم أن يثبتوا أمام هذه المشاهد أنهم صادقون…
إن أهل غزة الآن في ملحمة تاريخية فاصلة، وهم في جوف النار الناشبة، وليس لديهم ما يكفي من المظلات للإحتماء من تلك الكائنات المحطَّمة التي تنحشر بينهم، وتطوف حولهم، فلا وقت لديهم للإستماع لأولئك المسؤولين المرضى المهزومين نفسيّاً الذين يحسَبون كل صيحة عليهم ويرتبكون في قلق ورعب وجُبن عند كل خبر يضغط به العدوّ على زناد الحديد والنار، ولا وقت لديهم لاستقبال تلك الكائنات البكّاءة المنغمسين في تأثّرهم وانفعالاتهم الذين يشيعون الحزن والتفجّع في أوساطهم، ولا يرون المفاخر التي سطّرها أبطالهم في ملحمة السابع من أكتوبر العظيم، ولا وقت لديهم إلى النظر في وجه أولئك الباحثين عن فرصة للإرتزاق السياسي وسرقة متاع الحرب وانتظار نتائجها ولملمة ما تبقى من جثّة مشروع السلام، بينما يختبئون في زوايا المشهد البعيد يذرفون دموع التماسيح الدافقة، إن هذه الحرب لا تريد إلا أصحاب القلوب الحديديّة المنيعة الذين يهجمون بلا خوف، ويُقبلون بلا التفات للوراء، ويحسمون القرار بلا تردّد، ويقاتلون بلا هوادة، إذ لا وقتَ لترف احتساب الأوجاع في أتون المعركة، فإنّ ما يذهب لا يعود، فهي حرب متسارعة تسبق الزمن البطيء، وترفض الوقوف عنده، فلا تخذلوا الخنادق المشتعلة…
أين الأمم المتحدة، أين هيومن رايتس ووتش، أين العفو الدولية امنستي، أين الجامعة العربية أين البرلمان العربي، أين منظمة المؤتمر الإسلامي، أين دول عدم الانحياز، أين المنتظم الدولي، أين محكمة العدل الدولية، أين شعارات حقوق الإنسان، أين شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية، أين شعارات المساواة ومحاربة الميز العنصري، فرغم الألم والغصة وخيبة الأمل، شكراً لك غزة العزة، لقد عريت وجوه النفاق والشقاق، وفضحت زيف الشعارات وازدواجية المعايير والقيم، شكراً لأنك تحاربين عنا جميعاً، نحن الصامتون، المنبطحون، المزايدون، نحن العالم المغلوب المسلوب العاجز أمام عنجهية الصهيونية والماسونية العالمية، شكراً لك غزة العزة لأنك أظهرت وجه الحقيقة البئيسة…
اللهم إنّهم قد قالوا من قبل عن نبيك يوم الأحزاب (إن محمداً يُخنِدق على نفسه وأصحابه، ولا يستطيع أحدهم الخروج إلى الغائط، وهو يعِدهم بملك كسرى وقيصر)
فبعد أن انقطعت الأخبار ليلة الأحزاب، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة ليأتيه بالخبر، تلك الليلة كانت الفارقة في نصر المؤمنين، اللهم خبر حذيفة، اللهم ما يشفي صدورنا، اللهم ما يشفي صدورنا، فجاء حذيفة بالبشرى، بتولي الأحزاب.
فاللهم أيّد أهل غزة كما أيّدت نبيك، وأرسل على أعدائهم الريح العاصف، والرّكام العَمِيَّ، والمطر الموحِل، واقلِب مركباتهم عليهم، وشتِّتهم كل شتات، واجعلْ تائهم في قبضة المؤمنين.
🖋️إدريس زياد