أعمدة الرأي

زلزال في الإدارة الترابية: من يجرؤ بعد اليوم على تحدي تعليمات الملك؟

الجريدة العربية – ذ. بوحافة العرابي *

تشكل الأحداث الأخيرة التي شهدتها ولاية جهة مراكش-آسفي، بكل ما رافقها من وقائع لافتة، محطة عميقة للتأمل في مسار تدبير الشأن العام بالمملكة، لا سيما في ظل القرارات الحازمة التي تم اتخاذها بإعفاء مسؤولين إداريين بارزين من مهامهم، في توقيت بالغ الدلالة. فهذه المستجدات تضعنا جميعًا، كمتابعين للشأن الوطني، أمام سؤال جوهري: كيف يمكن تكريس مبادئ الحكامة الرشيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة بشكل فعلي ومتجدد؟ وهو السؤال الذي ينسجم تمامًا مع الرؤية الإصلاحية التي يقودها، بثبات وعزم، جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، والتي تقوم على إرساء دولة القانون والمؤسسات، حيث لا أحد فوق المساءلة أو الانضباط لمقتضيات المصلحة العامة.

لقد تناقلت وسائل الإعلام الوطنية، وبصيغ متواترة، نبأ إعفاء كل من السيد معاذ الجامعي، والي جهة فاس مكناس، والسيد فريد شوراق، والي جهة مراكش آسفي، عقب تداول مقاطع مصورة أظهرت مشاركتهما في ذبح الأضاحي خلال عيد الأضحى، في تجاهل صريح للتوجيه الملكي السامي الذي دعا هذا العام إلى الامتناع عن ذبح الأضاحي حفاظًا على الثروة الحيوانية التي تعاني من انعكاسات سنوات متتالية من الجفاف وارتفاع كلفة الأعلاف وتراجع العرض. لقد جاء هذا التوجيه من أعلى سلطة في البلاد ليحمل رمزية عميقة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية، وتجسيدًا لروح التضامن التي ينبغي أن تميز أداء المسؤولين تجاه القضايا ذات الأولوية الوطنية.

ولذلك، فإن القرار المتخذ بحق الواليين لا يمكن أن يُقرأ فقط في بُعده الإداري المحض، بل هو في عمقه رسالة صارخة حول ضرورة احترام التعليمات الملكية، خاصة حين تتعلق بالشأن العام أو بمسائل تمسّ معيش المواطن ومستقبل اقتصاد البلاد. لقد بات واضحًا أن الانضباط للتوجيهات السامية لم يعد خيارًا أو مسألة شكلية، بل التزامًا مؤسساتيًا يعكس مدى أهلية المسؤول في حمل الأمانة الملقاة على عاتقه.

غير أن من يتابع التفاصيل المتواترة حول ما جرى بجهة مراكش-آسفي لا يمكنه أن يغفل عن جوانب أكثر تعقيدًا ظهرت إلى السطح خلال الأيام القليلة الماضية، إذ فجّرت تقارير صحفية، وخاصة ما نشرته يومية “الصباح”، معطيات صادمة عن وجود ممارسات ظلت متوارية خلف جدران الإدارة الجهوية. فقد تحدثت تلك التقارير عن شكايات عديدة صادرة عن مستثمرين ومقاولين، ظلت لسنوات مكدسة في الأدراج دون معالجة، تتحدث عن مظاهر فساد واستغلال للنفوذ وسط بيئة كان يفترض أن تكون حاضنة للاستثمار النزيه والمنافسة الشريفة.

أخطر ما كشفته تلك الشهادات هو الحديث عن وجود شبكة غير رسمية، ادعت القرب من دوائر القرار العليا، واستغلت هذا الادعاء للابتزاز والضغط على الفاعلين الاقتصاديين. فقد أوردت التقارير أن هذه الشبكة كانت تفرض على بعض المقاولين والمستثمرين دفع مبالغ مالية، تحت مسمى “تبرعات” لفائدة جمعية ذات طابع ديني، مقابل تسهيلات إدارية أو غض الطرف عن عراقيل محتملة. بل وبلغ الأمر حد التهديد العلني لمقاولين فازوا بصفقات قانونية وفق مساطر شفافة، مما يكشف خطورة هذا النوع من السلوكيات التي تقوّض مناخ الأعمال وتُفقد المواطنين والمستثمرين الثقة في الإدارة العمومية.

ولئن كنا نقرّ أن القضاء لم يفصل بعد في صحة هذه الوقائع، وأن التحقيقات ما تزال جارية، فإن مجرد فتح هذه الملفات وإخراجها إلى دائرة الضوء يشكّل تحولًا إيجابيًا يعكس الإرادة المتجددة للدولة في تخليق الحياة العامة ومحاربة كل أشكال الريع والابتزاز.

ما جرى في مراكش ليس حالة معزولة، بل هو ناقوس إنذار حقيقي لكل مسؤول في مواقع القرار؛ بأن مغرب اليوم، بقيادة جلالة الملك، لم يعد يقبل بتلك الممارسات الموروثة عن عهود سابقة. فخطاب تخليق المرفق العام وترسيخ مبادئ الشفافية والنزاهة هو اليوم التزام عملي، وليس مجرد شعارات للاستهلاك الإعلامي. كما أن حماية مناخ الأعمال، وضمان بيئة عادلة للمستثمرين، يمثلان في هذا الظرف الدقيق أولوية استراتيجية في الأجندة الوطنية.

إننا في مغرب يطمح إلى أن يكون نموذجًا لدولة المؤسسات الحديثة، حيث تحكم القانون هو سيد الموقف، وحيث لا مكان لما يُسمى “الحدائق الخلفية” التي تُدار فيها مصالح البلاد خارج إطار الشرعية. والأحداث الأخيرة أكدت أن إرادة الإصلاح قائمة، وأن الدولة على استعداد لتصحيح المسار كلما رُصد الخلل، دون مجاملة أو محاباة.

إن الرسالة الأهم التي ينبغي أن نستخلصها جميعًا من هذه الواقعة، هي أن لا أحد، كائنًا من كان، فوق المحاسبة أو فوق مقتضيات القانون. وهذا في حد ذاته مكسب ديمقراطي كبير، يعزز ثقة المواطنين في المسار الإصلاحي، ويبعث برسالة واضحة لكل من يراهن على مغرب الغد: دولة الحق، والمؤسسات، والنزاهة …. لنا عودة …


* ذ. بوحافة العرابي باحث أكاديمي في مجال الصحافة والإعلام الإجتماعي و السياسي، وكاتب صحفي مقيم بأوروبا، يشغل منصب رئيس هيئة التحرير و النشر بالجريدة العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى