سياسة

زلزال الحوز : مغرب “القوة الناعمة” و فصل جديد في مأسسة الجغرافيا السياسية .

بوحافة العرابي*

في عصر يتميز بالسرعة و اليقظة ، تؤكد المملكة المغربية نفسها تدريجياً كقوة صاعدة على المسرح العالمي . ويُرمز إلى هذا التطور بمصطلح “القوة الناعمة”، والذي يتردد صداه كبداية لعصر جديد ، و توزيع غير مفاجئ للخريطة الجيوسياسية بعد عهد الكوفيد الذي صنعته القوى العظمى لتنحيل و امتصاص القوى الصاعدة ، حيث يبدو أن بلادنا ارتعشت لتنتعش ، و تظهر في ظرف وجيز أنها قوة ناعمة ، فرضت نفسها في مجالات شتى ، منها العلمية و الصناعية و الرياضية ، و غيرها . حتى أنها بدأت تطرح نفسها لتكشف الفوارق الدقيقة في علاقات مع كيانات كانت و ما زالت تظن نفسها أنها هي من يملك “قوت يومنا و كفافنا” .

كارثة طبيعية صنعت لمحة جيوسياسية عكست مغربا قويا ، مرنا ومستقلا .

كجزء من العلاقات الدولية غير المسبوقة، تبرز كارثة زلزال الحوز الذي ضرب المنطقة الوسطى للملكة غياب دولة فرنسا عن الساحة التضامنية التي نالت حظها أربع دول صديقة ، هي إسبانيا و المملكة المتحدة و الشقيقتين قطر و الإمارات العربية . غياب تعمدته المملكة المغربية ليكشف عن تفاصيل دقيقة ، لا يمكن أن تفلت عن أصحاب الاختصاص و النظرة الثاقبة ، حيث تبرز تصدعات العلاقات الفرنسية المغربية في شكلها المعاصر المتلبد بغيوم النفاق الغربي و التملص من الحقيقة .

ويبدو أن هذا الغياب القهري ، وهو شهادة واضحة على التوترات الكامنة بين باريس والرباط، بعد سلسلة من الخلافات وسوء الفهم الدبلوماسي المتراكم. وهو دليل صارخ على تطور الديناميكيات الجيوسياسية الحالية .

ففي هذا المناخ المتوتر، يشرح لويس مارتينيز بالتفصيل الديناميكيات المتغيرة، في تحليل 20 دقيقة . وهو يسلط الضوء على قدرة المغرب، بخبرته التنظيمية والتقنية، على المناورة بمهارة عبر هذه الأزمة من دون دعم فرنسي .

هذه الاستراتيجية المغربية المنسقة تقنيا و لوجستيكيا ، تتجاوز مفهوم الاكتفاء الذاتي البسيط . إنه يمثل إعلانًا قويًا لاستقلال المملكة وسيادتها . و يعكس على أن الحكم مستقل وسيادي في نفس الوقت .

وتجسيدًا لروح الاستقلالية يمكن تفسير الموقف المغربي الصارم ، على أنه مظهر ملموس للفلسفة الجوهرية للرسائل السياسية غير المشفرة في اللامركزية والإدارة الذاتية للأزمات . إنها رؤية تعمل فيها الكيانات ، سواء كانت دولًا أو أفرادًا ، بطرق تتجاوز الهياكل التقليدية للسلطة والتبعية الاستعمارية ، التي جعلت فرنسا تظن في قرارة نفسها أنها تملك العصا السحرية لحل مشاكل الشعوب الأخرى ، و هي الغارقة في مشاكلها الاجتماعية و الاقتصادية و انتهاكات حقوق الانسان , ونهب خيرات البلدان .

وفي ضوء ذلك، فإن حالة ( المغرب فرنسا ) تصور أمة عازمة على رسم مسارها الخاص . وبالاعتماد على مواردها الجوهرية وتحالفاتها الاستراتيجية ، و نظام حكم قار و ثابت ، تختار المملكة المغربية الإبداع بدلاً من السير على طريق الدبلوماسية التقليدية ، و اللجوء إلى المستعمر في مسائل الحل و العقد .

زلزال الحوز و فصل جديد في مأسسة الجغرافيا السياسية .

علاوة على ذلك، فإن الاختيار المتعمد للدول التي تقدم الدعم للمغرب ليس من قبيل الصدفة. وهذه خطوة محسوبة من السدة العالية بالله ، تهدف إلى إعادة تأكيد وتعزيز التحالفات الاستراتيجية، مع إرسال رسالة قوية حول الوضع الحالي للعلاقات الفرنسية المغربية.

ومن الواضح أن الرباط تنظم مناورة جيوسياسية ذكية . لكن ما الهدف منها ؟ إن إثبات التحالفات والصداقات الدولية التي تتجاوز العلاقات التاريخية مع فرنسا ، دليل قاطع على أن المملكة المغربية تعود بالتاريخ إلى الخلف ، لتذكر الجمهورية الخامسة ، أن المملكة ليست وليدة الإمبريالية الاستعمارية و فرض الحماية، بل نظام حكم بلغ صداه لمئات السنين قلب شبه الجزيرة الأيبيرية ، و أعماق إفريقيا جنوب الصحراء ، ليمتد تاريخيا أكثر مما صنعت فرنسا لنفسها بالدم و النهب و الانقلابات .

الواقع الملموس للمغرب ، يمكنه أن يزدهر مع عدد كبير من الشركاء، مما يكشف عن تنوع الفكر السياسي ورؤيته المعولمة . هذا التوجه القوي للقصر الملكي ، و الذي يتناغم مع قيم الحرية والاستقلالية التي تجسدها ثورة العلاقات المتنوعة ، تردد صداه حينما نكزت المملكة المغربية فرنسا في عز الألم الشعبي و الحزن المتمثل في أثار نكبة زلزال الحوز .

وبينما تمر العلاقات الفرنسية المغربية بأوقات عصيبة، يبقى أن نرى كيف ستتطور هذه الديناميكية في الأيام المقبلة . هناك شيء واحد مؤكد : هو أن ” المملكة المغربية تضع نفسها كلاعب أساسي في الشبكة الجيوسياسية للعلاقات الدولية الحديثة ، بتعدد الشركاء الأقوياء كالصين و روسيا و الولايات المتحدة و إسرائيل ، و قرابتها “السوسيو – دينية” و انتمائها تاريخيا لدول تملك صنبور الطاقة ، و سلطة القرار ” .


* كاتب صحفي ورئيس هيئة التحرير و النشر بالجريدة العربية

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

أيها القارئ العزيز أنت تستعمل إضافة لن تمكنك من قراءة الجريدة العربية . المرجو تعطيل الإضافة , شكرا لك .....