أعمدة الرأي

المغرب بين الأرقام ولكريساج بالسكين… هل فقدنا الأمن أم فقدنا الثقة؟

الجريدة العربية – عبد الله مشنون

في المغرب، حين يُسأل المواطنين عن أكثر ما يخيفهم في الوقت الراهن، لا يذكرون الحروب أو الأوبئة أو الامراض، بل يجيبون ببساطة: “لكريساج بالسكين و السيف”. لم يعد الأمر نكتة سوداء تتناقلها منصات التواصل، بل إحساس راسخ بالخطر وإنعدام الأمن، يطارد المواطن في طريقه إلى العمل، وعند ذهابه الى المسجد و في طريقه من السوق، في طريقه إلى الجامعة أو حتى على عتبة منزله. شباب يلوّحون بالسيوف والأسلحة البيضاء، عصابات تتربص عند كل زاوية، وجرائم تقتحم الأحياء كما تقتحم الشاشات… فما الذي يحدث حقا في المدن المغربية واحيائها وأزقتها وأسواقها؟ وهل نحن أمام أزمة أمنية، أم أمام أزمة ثقة في الدولة؟

المديرية العامة للأمن الوطني، وهي الجهة الرسمية المسؤولة عن سلامة المواطنين، نشرت تقريرها السنوي لسنة 2024 بتفاؤل ملحوظ: تراجع في معدلات الجريمة بنسبة 10%، وانخفاض ملحوظ في السرقات تحت التهديد بالسلاح الأبيض بنسبة 24%، وفي سرقة السيارات بنسبة 20%، وفي السرقات بالعنف بنسبة 12%. أرقام مطمئنة على الورق، لكنها لا تُسكت هدير الخوف الذي يعلو في الأحياء الشعبية ووسط المدن، ولا تقنع تلك المرأة التي شاهدت ابنها ُهدد بسكين على بعد أمتار من البيت.

كيف نقرأ هذه المفارقة؟ كيف نفسر أن تتراجع الأرقام في التقارير، بينما تتصاعد مشاهد العنف في الواقع الافتراضي والشارع الحقيقي معا؟ الإجابة قد لا تكون في خلل في الأرقام، بل في الطريقة التي يعيش بها المواطنون يومهم. فالشعور بالأمن لا ينبع من الإحصائيات، بل من الإحساس بالطمأنينة حين تغادر منزلك دون أن تفكر: “هل أعود سالما أم لا؟”

الخبراء يضعون أصابعهم على الجرح: المقاربة الأمنية وحدها لا تكفي. نعم، نحتاج شرطة أكثر، تجهيزات أفضل، دوريات أنشط. لكن الأمن ليس مجرد ملاحقة بعد الجريمة، بل وقاية قبل أن تقع. هنا تبرز كلمة السر: “الوقاية الاجتماعية”. كيف يمكن لشاب لم يكمل دراسته، يعيش في حي مهمش، بلا شغل، بلا أمل، أن يرفض دعوة رفيق سوء؟ كيف يمكن لمراهق يدمن الأقراص المهلوسة أن يفرق بين النشوة والجريمة؟ وكيف نتوقع من مجتمع تزرع فيه بذور اليأس أن يثمر أمنا وسلاما؟

واقع الحال أن هناك أحياء في المدن الكبرى، من الدار البيضاء إلى فاس، ومن سلا إلى طنجة، تركت لمصيرها. أحياء دون مراكز ثقافية، دون مرافق رياضية، ظون مناطق خضراء دون أفق سوى الشارع، وأحيانا الزنزانة. في هذه الأحياء يولد العنف، ويترعرع حتى يصير وحشا لا يقاومه لا قانون ولا عصا.

ثم هناك وسائل التواصل الاجتماعي، التي ساهمت ( شاء من شاء ) في تكبير حجم الإحساس بالخوف. فكل جريمة تصور وتنشر وتعاد آلاف المرات. كل سيف يشهر، وكل اعتداء يوثق، فيتحول الحدث الفردي إلى كابوس جماعي. والمشكلة ليست في النشر فقط، بل في ما يكشفه من فراغ: أين الوقاية؟ أين التحرك الاستباقي؟ أين الحملات التربوية؟ أين الإعلام الذي يزرع الوعي لا الرعب؟

نحن لا نعيش في بلد هش مثل دول الساحل، ولا في دولة منهارة أمنيا كليبيا أو النيجر. نحن في المغرب، بلد له جهاز أمني يحترم، وله إمكانيات، وله تقاليد في حفظ النظام. لكن الخلل ليس في وجود الأجهزة، بل في فعاليتها على الأرض، وفي تنسيقها مع باقي مؤسسات الدولة: التعليم، الأسرة، الشغل، الإعلام، المجتمع المدني. الأمن لا يصنعه الشرطي وحده، بل تشاركه فيه الأسرة، المدرسة، والإمام، والمعلم، والصحفي والسياسي.

لقد صار واضحا أن المغرب بحاجة إلى رؤية أمنية جديدة، لا تكتفي بمطاردة الجريمة، بل تطارد مسبباتها. رؤية تتعامل مع الشاب الذي يحمل السكين، لا كمجرم فقط، بل كعرض لمرض اجتماعي أعمق. رؤية تعيد الثقة بين المواطن ورجل الأمن، فلا يرى الأول في الثاني خصما، بل سندا.

باختصار، لا نريد أن نحيا في بلد تحكمه الأرقام الوردية، بينما يخنقنا الواقع القاسي. نريد أن نسير في أحيائنا دون خوف، أن نحمل هواتفنا دون قلق، أن تذهب بناتنا إلى المدرسة دون أن يحاصرهن من يحملون السكاكين. نريد مغربا لا يطمئننا فقط بالتقارير، بل يعطينا الأمن كحق لا كامتياز، وكواجب لا كحلم.

حين يشعر المواطن أن الأمن يرافقه لا يراقبه، حين يرى أن القانون يطبق على الجميع، حين يعلم أن يده الخالية من السلاح تحميه كما تحمي الآخر… فقط عندها نستطيع أن نقول: نعم، المغرب بلد آمن.


* ذ. عبد الله مشنون : كاتب صحفي مقيم بايطاليا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى