أسد الريف المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي .
الأستاذ إدريس زياد*
محمد بن عبد الكريم الخطابي المعلم والمجاهد والصحفي والترجمان كلها صفات اجتمعت في ابن الريف المولود عام 1301 هجرية الموافق 1883ميلادية، حفظ القرآن ودرس اللغة العربية ثم أكمل دراسته بمدينة مليلية وجامعة القرويين بفاس، تخرج منها قاضياً في مليلية ثم ترقى إلى قاضي القضاة وعمره لا يتجاوز ثلاثاً وثلاثين سنة، وكان آنذاك يكتب في الصحف العربية وأخرى باللغة الإسبانية، وحضي بمكانة محترمة لدى السلطات الاستعمارية، وتولى عدة وظائف، عمل مترجماً للغة الإسبانية، حيث ترجم عدة وثائق للجيش والمخابرات، الأمر الذي جعله متفوقاً في حربه التكتيكية ضد الإحتلال، جاهد مع والده في الحرب العالمية الأولى في الريف سنة 1915 ميلادية، اعتقله الإسبان للضغط على والده بترك المقاومة، فحاول الفرار من السجن برمي نفسه من أعلى سور، لكن ساقه انكسرت فأغمي عليه فأعاده المحتل الإسباني إلى السجن، ثم أطلق سراحه بعد أربعة أشهر، قتل والده في معركة ضد الإسبان سنة 1920، بعد ذلك اشتعلت المعارك فأسفرت عن انتصاره وطرد الإسبان من حاميتين عسكريتين، أرسل الإسبان ستون ألف جندي وطائرات وعتاد كبير، في 25 شوال 1339هجرية الموافق 01 يوليوز 1921 ميلادية اقتربت الحملة من بلدة “أنوال” بالريف، فكمن لها الخطابي في قوة من ثلاثة آلاف مجاهد، فمزّق جيشهم تمزيقاً، وقتل منهم ثمانية عشر ألف وأسر الباقين، فنجا من العدو ستمائة جندي فقط، غنمت المقاومة في الريف عشرون ألف بندقية، وأربعمائة رشاش، ومليون خرطوشة، وطائرتين، وعدداً كبيراً من السيارات والشاحنات، تعد معركة أنوال من أكبر المعارك التاريخية بين المغرب وإسبانيا، كمعركة الزلاقة في عهد المرابطين تحت قيادة يوسف بن تاشفين…
فاجأ الخطابي المحتل بطرق عجيبة في القتال، فكان يحفر الخنادق، ويباغتهم في الجبال، ويعتبر المجاهد الخطابي أنه مبتكر تكتيك الخندق أي مقاوم أو مقاومين في الخندق الواحد مع بُعد المسافة بين الخندقين حرصاً على ألا تكون الخسائر البشرية فادحة، فأصبح الخطابي يضرب به المثل في فن المقاومة وتكتيك الجهاد وحرب العصابات من طرف كبار المقاومين عبر العالم مثل الياباني “هوشي منه” والأرجنتيني “شي غيفارا”.
(السلاح الذي أحتاجه عند عدوي) هو جواب الخطابي لرفاقه رفضاً للمساعدة التي تُعرص عليه من الخارج، لأنه كان يغنم الأسلحة من المحتل، كان النصر من الله وكان وقع الهزيمة على المحتل مدوياً عبر العالم خصوصاً وأنها تمتلك جيشاً مسلحاً بأحدث الأسلحة…
طرد الخطابي الإحتلال الإسباني من الريف، وحاصرهم في مدينتي سبتة ومليلية، فحوّل رجاله المقاومين إلى جيش وشق الطرق ومدد أسلاك الهاتف ولم يتنكر لسلطان المغرب أو يتطلع إلى عرشه، حيث منع أنصاره من الدعاء لنفسه في خطب الجمعة، لكنه بدأ يرسل وفوداً للدول العربية للحصول على التأييد لأجل إقامة جمهورية الريف، هاجمه الإعلام الأوروبي بحملة عنيفة، فاجتمعت أوروبا لأجل إجهاض المحاولة، وفي سنة 1924 توجه الإسبان إليه بمائة ألف جندي فحاصروه لمدة ثلاثة أسابيع، لكن المقاومة الشرسة استطاعت أن تقتل منهم أربعة آلاف، الشيء الذي دفعهم إلى الإنسحاب والرجوع خائبين إلى إسبانيا، أحست أوروبا بالخطر لأن انتصار الخطابي على مشارف أوروبا وإنشاء امبراطورية إسلامية بالريف سيكون بعد ذلك اقتحاماً وفتحاً لها، دخلت فرنسا في تحالف مع إسبانيا بجيش عدده نصف مليون جندي، حاصرت القوات الفرنسية المقاومين وكانت الطائرات منتظمة بأسراب كثيرة، وكانت تقذف بأنواع القنابل المحرمة دولياً، والخطابي وجنده في خنادقهم صابرون، أصبح كل العالم ينادي باسم الخطابي، كما اعترف العدو قبل الصديق بأنه زعيم كبير…
ولأن الحمية تغلب السبع، فجيش الخطابي عشرون ألف مقاوم، والعدو نصف مليون مدجج بالأسلحة والطائرات كالتي هزموا بها ألمانيا وإيطاليا والدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، كذلك خيانة بعض القبائل الذين انساقوا مع العدو، وكانوا يوزعون منشورات ضد الجهاد مع الخطابي، تَمّ التخلي عنه ولم يبق معه سوى مائتي مجاهد، بعد ذلك لم يجد بدّاً من تسليم نفسه بعد مفاوضات لأجل الصلح مع العدو دامت سنة رغم أنه كان يرفض الإستسلام في البداية رفضاً قاطعاً، إلا أنه قبل ذلك بإشارة من رفاقه حقناً للدماء حيث كانت الطائرات تقتل كل متحرك وتقذف فوق رؤوسهم الغازات السامة المحرمة…
لقد ثبت أن أوروبا الهمجية التي تتشدق بحقوق الإنسان وما إلى ذلك من أوصاف ملائكية أنها استعملت الغازات السامة ضد الأطفال والنساء في الريف المغربي، وما زال الريف وأهله يعانون من آثارها إلى اليوم حيث تم تسجيل أعلى نسب إصابة بأمراض السرطان، لم يتوقفوا عن حرق القرى في الريف، فكان الخطابي يقول لهم باستهزاء أنتم تملكون الأسلحة المتطورة يعني أنتم متحضرون، أما أنا أملك رصاصات وبنادق يدوية فقط يعني أنا متوحش، لأنهم كانوا يصفونه ويتهمونه بالتوحش والبربرية، يقول الخطابي بأن هزيمته جاءت من الداخل يعني بدافع الخيانة، ولو لم يكن دعم داخلي للعدو لانتصر…
سلم الخطابي نفسه بطريقة الأبطال حين اقتحم بجواده الصفوف الفرنسية، سلم نفسه للفرنسيين بعد كتاب صلح وإبقائه في الريف، لكن الفرنسيين خانوا العهد كعادتهم ونفوه إلى جزيرة “رينيون” بالمحيط الهادي شرق مدغشقر لمدة إحدى وعشرين سنة، وفي السنوات العشر الأولى منعوه من كل اتصال بالعالم، حرموه من قراءة الجرائد والمجلات ومن الكتب التي كانت معه، فقضى المنفى في الذكر والصلاة، بعد ذلك جاء الفرج، فأرجعه العدو إلى فرنسا ليقيم في ضواحي باريس، فأتت به سفينة من الجزيرة ومع مرورها بعدن تسامع بعض من أهل الغيرة والصلاح من اليمنيين والعراقيين والفلسطينيين في عدن بمرور سفينة الخطابي، فراسلوا مصر، وطلبوا من المكتب المغربي فيها أن يحتالوا لإنزاله من هذه السفينة التجارية، فدبر الأستاذ عبد الرحمن عزام وهو أول رئيس للجامعة العربية، دبر الأمر مع “الملك فاروق”، وكان ذلك سنة 1947ميلادية، فصعد برجاله إلى السفينة وطلبوا من قائدها أن ينزل الخطابي لمقابلة الملك والسلام عليه هو وأخوه وعمه عبدالسلام، فانطلت الحيلة على القبطان، ولما نزل أبقته مصر عندها ورفضت عودته، إلى هنا ثارت فرنسا وقامت قيامتها، لكن بعد فوات الأوان، فاتهمت مصر بالخيانة والغدر، ونسوا أنهم هم من غدر به ونفوه إحدى وعشرين سنة، بعد ذلك تواصل الخطابي مع دعاة مصر وكبارها، ومنهم حسن البنا، واتصل أيضاً بمكتب المغرب العربي في القاهرة حيث عيّنوه رئيسا له وأخوه نائباً، لكن في عهد جمال عبد الناصر في انقلاب سنة 1952 بمصر فترت العلاقة بينه وبين الخطابي فتم تضييق الخناق عليه، وبعد مدة تسع سنوات مات الأسد الخطابي في يوم الثلاثاء 11 رمضان 1382هجرية الموافق 05 فبراير 1963ميلادية، رحمه الله تعالى وغفر له وأسكنه فسيح جناته.