بقلم الأستاذ إدريس زياد .
لها طقوس محيرة لمن يتفضلون بتذوقها لتستعيد ذاتها وألقها وقدرتها على إضفاء مزيد من السحر في خيال المتيمين بشربها، ولأنها تعطي كثيراً فلا بد لها أن تأخذ حتى تستمر في قدرتها على إرضاء ذائقة الشاربين، لذلك تجدها تبحث عمن يطلبونها على شروطهم لا على شروطها، لأنها في هذه الحالة تأخذ أكثر بكثير مما تعطي، فلا يشربها إلا أهلها الذين يعرفون حقيقتها التي لا تشرب إلا بها، ومن آداب شرب القهوة أن تستنشق رائحتها بعمق قبل شربها حتى تعطر خلايا المخ برحيقها…
القهوة مزاج، فإن كان المزاج حاضراً كان الذي في الفنجان قهوة، وإذا غاب المزاج صار الذي في الفنجان يشبه أي شيء إلا القهوة، وللقهوة مع الصديق مذاق مختلف بنكهة صداقته ومع إنسان طيب تكون قهوة، أما ارتشاف القهوة مع من تحب فقد يجتمع لك المذاق والشهد، ولها في ليالي الأنس مذاق آخر لا يدركه إلا المبصرون…، أما إن كانت مع غير ذلك قد تكون أي شيء إلا القهوة، ولا تبوح القهوة بشذاها فقط لمن أكرمها وأكرم بها، وإنما تكرم القهوة بتواجدها على طاولة الكرام…
لمن يبحث عنها لتعديل المزاج أو لمن لا يطلبها إلا إذا كان المزاج معتدلاً، فالقهوة تجذب عند الاستيقاظ من النوم، وكذلك فهي لا تروق لعاشقها في كأس ولا يتأملها في غير فنجانها، ولا يحبها باردة ولا حلوة، فالقهوة كالأنثى إذا أهملتها أصبحت باردة حتى في مشاعرها، ومن الأفضل تنظيف الفم قبل ارتشافها حرصاً على تفرد طعمها ورائحتها، و الإقهاء على شرب القهوة إشارة واضحة إلى مكانتها الاجتماعية، فكلمة قهوة وُجدت في لسان العرب بمعنى الخمر، لأنها تُقهي شاربها، فكلمة البُنّْ مصدرها في لسان العرب بَنَنَ وتعني الريح الطيبة كرائحة التفاح ونحوها، ولا يستبعد أن اسم القهوة قد استمدت من (القِهَة) وهي طيب الرائحة…
يقول الفراهيدي في كتاب العين إن الخمر سمّيت قهوة لأنها تُقْهي الإنسان أي تشبعه وتذهب بشهوة طعامه، ثم يعطي صاحب لسان العرب مثلاً آخر لاستخدام فعل القهوة، أقهاهُ الشيء عن الطعام، كفّه عنه أو زهّده فيه، ويضيف، قهي الرجل قهياً، لم يشته الطعام، ثم ينقل من بعض مصادره، قول أحدهم، المقهى و الآجم الذي لا يشتهي الطعام ، وكل هذه المعاني تتضمن العزوف والأَنفة، ويلفت في اسم “القهوة” في اللغة العربية، وروده اسماً للخمر، في أصل استخدامه، وأمثلة استخدامه في هذا السياق غير قابلة للحصر، لأن أغلب الشعر العربي كان يسمّي الخمر قهوة…
ويتفق لسان العرب تماماً مع ما ذهب إليه الفراهيدي في القهوة، فيقول: قها، أقهى عن الطعام واقتهى، أي ارتدّت شهوته عنه من غير مرض، ويضيف: أَقهَمَ، قيل هو أن يقدر على الطعام فلا يأكله وإن كان مشتهياً له، وهذا يتضمّن معنى الأَنَفة والعزوف. ومعنى آخر للعزوف الطوعي عن تناول الطعام الذي يتضمنه معنى القهوة، وهو بالإشارة إلى الرّفاه وسعة العيش، وهو أمر قاله الفراهيدي لدى إشارته إلى معنى القهوة، ثم يؤكده لسان العرب بقوله: “عيشٌ قاهٍ، أي عيشٌ خصيب” وبالتقاء رغد العيش الخصيب، مع غياب شهية الطعام ومن دون مرض في اسم “القهوة”، فتكون الأخيرة إشارة واضحة إلى المكانة الاجتماعية، لأنها تتضمن معنى العزوف والأنفة، وتتحدّد المعاني التي يشتمل عليها اسم القهوة على وجهين أساسيين، أولاً الامتناع عن الطعام سواء بقطع الشهية أو لسبب إرادي ما لا علاقة له بالمرض بل يكون عزوفاً وأنفة وكإشارة إلى رغد العيش.