بوحافة العرابي* – الجريدة العربية
خلال رحلتها التي استغرقت يومين إلى الجزائر ، تمكنت رئيسة الوزراء الفرنسية “إليزابيث بورن Elisabeth Borne” أن تتطرق سراً إلى القضية الحساسة المتعلقة بالتصاريح القنصلية ، وقيود التأشيرات الممنوحة للمواطنين الجزائريين الذين في نيتهم السفر إلى فرنسا . ناهيك عن الإجراءات الضرورية لمرافقة الجزائريين إلى الحدود لا سيما أن الدولة الجزائرية تستنكر من جانبها ظروف احتجاز مواطنيها أثناء عملية الطرد .
حاشدة من خلفها “جيشا من وزراء حكوماتها” لتلميع صورة فرنسا الملطخة (….) , و تحت زوبعة إعلامية تتأرجح بين القبول و الرفض . ماذا يكمن وراء زيارة اليزابيث بورن والوزراء الفرنسيين للجزائر ؟ هل هي مصالحة بين الماضي و الحاضر ؟ بين الجاني و المجني عليه ؟ أم هي جذبة فرنسية على ذكرى الحنين للثروات الإفريقية في ظل أزمة طاقة خانقة ؟ خاصة و أن محطات البنزين الفرنسية أغلق ما يزيد عن 30% منها , و عدد لا يستهان به لا تتوفر فيه المحروقات التي خلف نقصها أو غيابها بالكامل طوابير تعيد ذكرى أزمة النفط لعام 1973 أو ما يسمى صدمة النفط الأولى و التي بدأت في 15 أكتوبر 1973، عندما قام أعضاء منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول بقطع الإنتاج عن أوروبا ) . فرنسا التي تعيش أزمة خانقة على كل المستويات , فضلت الترويح و التنفيس و تصدير الأزمة عبر التصالح مع الجزائر , حتى تستنجد بمصدر الطاقة الشمال إفريقي الذي بدأ “يفرق الزاد قبل الميعاد” . و عوض أن ترسل الجمهورية الخامسة “كتائب المجنسين الجدد أو المرتزقة و بنادق الصيد ” لتدمر الإنسان و الزرع , فضلت إرسال جند ديبلوماسي لا يشق له غبار , يعرف قبليا أن المضيف ” أرعن ” يحتاج إلى صور يدهن بها خشونة تشققاته السياسية , و يشمع بها آذان و مسامع شعبه المقهور .
نقول أنه إذا رغب الوفد الرسميً الفرنسي المؤلف من 16 وزيرا , “تجسيد المصالحة الفرنسية الجزائرية” و أخد بعض الصور في قصر المرادية بعد إخضاع المسؤولين الجزائريين لمقصلة تصدير الطاقة , فالرحلة أيضًا هي فرصة لتسوية بعض القضايا الشائكة خلف الكواليس . ففي الجانب الأخر و الأهم من الروزنامة الديبلوماسية التي من أجلها تم تحديد هاته الرحلة ، هناك واحدة من أكثر الأمور أهمية بالنسبة لحكومة بورن و التي تتعلق برفض الجزائر منح التصاريح القنصلية اللازمة لطرد مواطنيها المتواجدين بالأراضي الفرنسية بشكل غير قانوني .
و حتى عام 2020 ، منحت الجزائر عددًا مهما من التصاريح ذات الطابع الإجرائي ، حيث سمحت المصالح الخارجية الجزائرية في عام 2019 بما قدره 1652 عملية إبعاد قسري لمواطنيها من فرنسا . لكن الوباء تسبب في توتر المواقف . تحت ذريعة إغلاق الحدود أولاً ، ثم البروتوكولات الصحية الصارمة إبان الأزمة ، مما أجبر العدد أن ينخفض بشكل كبير , حيث تم منح 389 تصريحًا في عام 2020 ، و 34 في عام 2021 و 5 فقط في الشهرين الأولين من عام 2022 . و هذا أمر لم تقبله بالمرة فرنسا التي تعتبر تتخيل ” سيدة غيرها” . هذا النقص في تصاريح الإجلاء القسري يطرح مشكلة كبيرة بالنسبة لإيمانويل ماكرون الذي يكرر باستمرار أنه من الضروري “تحسين فعالية سياسات الترحيل” . فبدون موافقة البلد الأصلي ، يظل الأجانب في وضع غير قانوني في فرنسا , قابعين بسجون/مراكز الاعتقال الإداري (CRA) . و تعرف فرنسا جيدا أن الجزائريين الآن أصبحوا ممثلين تمثيلًا زائدًا ، ويعرفون جيدًا أنه لا يمكن ترحيلهم , مما يؤدي غالبًا إلى توترات .
عدم إصدار تصاريح الترحيل القسري شكلت خطرا دبلوماسيا قد يطول أمده .
ولإلغاء خاصية حتمية هذا الوضع ، حاولت فرنسا ربط إصدار جوازات الترحيل بإصدار التأشيرات ، خاصة للطلاب . ففي سبتمبر 2021 ، أعلنت باريس عن خفض بنسبة 50% في عدد التأشيرات الممنوحة للمواطنين الجزائريين نكاية في سياسة التعنت من الجانب الأخر كما يحلو للفرنسيين تسمية الأمر . إجراء غير فعال للغاية ، و قبل كل شيء ، محفوف بالمخاطر على المدى الطويل من حيث الدبلوماسية لأنه يعكس “الرغبة في العقاب بدلاً من الحوار” . إذ كان من الممكن – كما يرى بعض المتخصصين في الشأن المغاربي – أن يكون أحد مجالات العمل بين وفدي الوزراء الفرنسي و الجزائري حول تخفيف البروتوكول الصحي إبان فترة الوباء . صحيح أن الجزائر لا تقبل عودة مواطنيها , و هو أمر ترفضه فرنسا تماما . و مع زيارة إيمانويل ماكرون الأخيرة للجزائر في نهاية شهر غشت , قد يكون من الممكن أن الدولتين تطرقتا للموقف إلى حد ما . حيث خلال الأسابيع القليلة الماضية ، شهدنا استئناف عمليات طرد المواطنين الجزائريين بشكل ملحوظ ، بينما لم يكن هناك أي طرد تقريبًا العام الماضي . كما أن الطرد القسري تم مع أو بدون اختبار PCR . صحيح أنه لا نعرف حقيقة , ما إذا كانت الحكاية مرتبطة بزيارة إيمانويل ماكرون أم لا , لسرية لبعض الجلسات التي كانت بين المسؤولين الجزائريين و الوفد الفرنسي ، ولكن على أي حال فإن الملاحظة موجودة ” .
زيارة إليزابيث بورن و 16 وزيرا للجزائر : رحلة التسول , أم رحلة الانقضاض ؟
ليس من الواقع في شيء أن تتم برمجة رحلة ديبلوماسية فرنسية على أعلى مستوى إلى دولة أخرى , و بشكل متكرر , إلا إذا كان ما فيها يلمع , و يسيل لعاب الجشع . فرنسا البرغماتية في ضيافة الجزائر التي تبحث بدورها على منفذ للعب دور الريادة في منطقة الصحراء الكبرى و شمال إفريقيا . جزائر تقودها مؤسسة عسكرية لا تعرف من الديبلوماسية إلا الدفع بما تدره أبار الغاز من عملة ” جد صعبة ” . دولتان تعيشان في ظل أزمات حارقة , وتشتركان طعم المر و الحنظل . حيث باريس بدأت تفقد سيطرتها على خيرات إفريقيا لصالح الصين و روسيا و المغرب , هذا الأخير الذي لم يدخل القارة السمراء بالبندقية و الرصاص و التجويع , و إنما دخلها لأنه “ابن الدار البار” , موزعا في جل أقطابها مشاريع عملاقة تدر المال اليسير على الخلق و الأرض .
دخول المغرب إلى الساحة الاستراتيجية للقارة الإفريقية جعله يستحوذ على المنظومة السياسية الفرنكوفونية الأنجلوساسونية , و هو واقع جسدته لحد كبير الرحلات التي قام صاحب الجلالة الملك محمد السادس لعدد كبير من دول القارة في العشرية الثانية من القرن الجاري . ورقة كسبتها المملكة الشريفة ذات الباع الطويل كأمة صانعة لأمجاد التاريخ من أجل جلب الأصوات التي كانت تغرد خارج السرب في ما مضى من الزمن . حيث عاد الأسد إلى عرينه و صوتت إفريقيا لصالح الوحدة الترابية للمملكة , و استثني من ذلك نشاز قليل , ارتشف لفقره أو علة في نفسه من أموال الجارة الشرقية , التي بدأت بعدما أسقط في يدها استغلال ورقة الغاز لإرضاخ دول طالتها الأزمة الاقتصادية التي خلفها وباء كورونا و بعد “ذل الحرب الأوكرانية الروسية لعديد ممن كنا نحسبهم من ذي قبل دولا عظمى ” .
كتبت إحدى الصحف الفرنسية المهمة مقالا لخصته في حشد رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن لجيش من وزرائها لرحلة الجزائر , أنها تسعى مع الأخيرة لتحريض إفريقيا على المغرب . و من المعروف أن فرنسا في رحلة الشتاء و الصيف سعت إلى تلبية “ نزوات قصر المرادية التافهة من خلال الاعتراف بخطيئة الاستعمار ” التي خذر بها شعبه كقضية مقدسة رفقة القضية الفلسطينية . الانبطاح الكلي لبلد الجنرالات مقابل أخد بضعة صور تزيين السيرة الذاتية لتبون و شنقريحة و باقي ” الزملاء في الحرفة ” ما هو إلا توضيح الصورة الأصلية العتمة للنظام العسكري , الساعي إلى الريادة حتى و لو كلفه المر تجويع شعبه .
فرنسا لا تلعب الغميضة مع الجزائر , و إنما تنزلق لتصل حيث ستأخذها حتمية نتائج الحرب الروسية الأوكرانية , و الصراع الغربي الأمريكي من جهة و الروسي الصيني الإيراني من جهة أخرى . حيث تبدو فرنسا و معها القارة الأوربية في التشكيلة الأضعف التي استهانت بالحرب و قادت نفسها إلى حتفها و هي في حالة وعي . و على ضوء ذلك تسعى الدولتان الأوروبية و الإفريقية العربية إلى استغلال “توافقهما البراغماتي” لتقويض خصم أخر بشكل مرضي .
لن يجد الحليفان أهم من المملكة المغربية ” لإطفاء نار الاحتراق النفسي ” , فهي دولة أمة , طموحة , مستعصية , مانعة , و تعتبر من أسرع الدول في استقطاب الخطط الائتمانية و الاستثمارات الأجنبية . ناهيك على أن الجزائر و فرنسا التي تشتركان في تاريخ معروف دام لأزيد من 130 سنة , لهما باع طويل في السنوات الأخيرة من أجل زعزعة أمن و استقرار المملكة عبر تحريك قضايا مفبركة , على رأسها ملف الصحراء المغربية المحسوم لصالح صاحب الحق .
رحلة الشتاء و الصيف , ماذا أخفت رحلة إيمانويل ماكرون و إليزابيث بورن ؟
في شهر غشت , و في عز حر صيف السنة الجارية حل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالعاصمة الجزائرية رفقة ما يقارب مئة شخص , جلهم ” لا فائدة تجنى من وراءه إلا ملء حقينة الفنادق الجزائرية ” . التقطت الصور و عقدت جلسات علنية و سرية بين الأطراف , خرجت بعدها الصحافة الفرنسية تندب حظها لرحلة دامت ثلاث أيام عجاف صرفت فيها أموال الشعب . في حين زغردت الآلة الإعلامية الجزائرية , و زقزقت الطيور , إذ لاح في الأفق أن الغاز الجزائري سيذهب لماما فرنسا . بعدما راح جزء أخر إلى دولة إيطاليا المسالمة خلال زيارة رئيس الوزراء المستقيل ماريو دراجي .
أما زيارة إليزابيث بورن رفقة 16 وزيرا , فهل يمكن وصفها على أنها نسخة أوروبية للحكاية العالمية ” علي بابا و الأربعين حرامي ” ؟
احتمال كبير , و أصل وراد في شروط العقد الاجتماعي الذي يربط عتق رقبة الجنرالات من ” مساوئ الماضي و الحاضر “ . فزيارة الرئيس ماكرون ” الفاشلة للجزائر ” و التي عاد من خلالها بخفي حنين , ما هي إلا تمهيد لزيارة وزيرة حكومته التي حصدت الحابل و النابل , و زفت الخبر السعيد , حيث ما حدت على طول أيام الزيارة الديبلوماسية سيفسح عن سريته في القريب العاجل من قبل الفرنسيين . لأن ما حدث في الخفاء غير ما وضحته شاشات التلفاز , و إن غدا لناظره قريب .