بقلم الأستاذ إدريس زياد .
صعد الدرج ببطء شديد بعد أن نال منه العياء، وصل إلى باب بيته، رفع يده بصعوبة وضغط بسبابته على زر الجرس، فتحت زوجته الباب ونظرت إليه باستغراب، متسائلة: أين الحاجيات التي طلبتها منك يا رجل؟ ألم أكتب لك لائحة الأشياء الضرورية للمنزل؟ ألقى الرجل بكل ثقله على كرسي قرب الباب وتنفس الصعداء ثم قال: لقد نسيت، صرخت في وجهه، نسيت، دائماً تنسى، كل شيء متعلق بي تنساه، كل طلباتي أصبحت تنسى، متى ستحاول ولو لمرة واحدة في حياتك أن تهتم بي، دون مبرر النسيان، شدّ رأسه بكلتا يديه وأسند مرفقيه على ركبتيه قائلاً: أشعر بصداع شديد …ثم صمت !
لم تجد الزوجة اهتماماً، فبدأت تستنشق نغمة البكاء من أنفها وتنتحب وتعتصر بصعوبة دمعة حزن لاستدرار عطف واهتمام زوجها، هرعت إلى غرفتها مسرعة على أمل أن يلحق بها معتذراً كما في كل مرة، لكن الرجل بقي ممسكاً برأسه متأوها من الألم الشديد، مرت دقائق على حالته وهو في مكانه، الشيء الذي أصاب زوجته بخيبة أمل لفشل خطتها في ابتزازه…
أخرجت رأسها من نافذة غرفتها المطلة على مدخل البيت مستطلعة، فوجدته على حاله، تقدمت نحوه بهدوء، لكن هذه المرة بخطة مغايرة، تحدثت إليه بود: عزيزي أتريدني أن أجهز لك طعام العشاء؟ أجابها دون أن يرفع رأسه: ليس الآن، لا أشعر بالجوع، أشعر بألم شديد
قالت الزوجة: كنت خارج البيت منذ الصباح، ماذا أكلت؟ ومع من؟
قال: لست أذكر ! صرخت الزوجة: لا تذكر أي شيء، ماذا أصابك يا رجل؟ كل شيء تنساه، نسيت أن تأكل أم أنك لا تريد أن تخبرني مع من تناولت طعام الغداء!
استمرت الزوجة بحديثها الطويل الممزوج بالريبة والشك و الاتهام، بينما سرح الرجل بخياله عائداً إلى مدرسته الابتدائية، كان هناك أستاذ يستهويه ضرب التلاميذ لدرجة تصل إلى التعذيب أو تكاد، تخيل أمامه هذا الأستاذ وهو يسحبه من أذنه ليوقفه قائلاً: أين واجبك المنزلي أيها الكسول؟ فيرد عليه التلميذ بنبرة خوف: لقد نسيت أن أكتبه يا أستاذ! صفعة مؤلمة على خده الأيمن حتى يرن صداها في حجرة الدراسة، يضع التلميذ يده على خده متألماً، يسأله الأستاذ: كيف نسيت أن تنجز واجبك المنزلي؟ هل نسيت أن تأكل أم أن الأكل هو الشيء الوحيد الذي لا يُنسى! يحاول التلميذ أن يعتذر فتنزل صفعة أخرى على خده الأيسر حتى يكاد أن يقع أرضاً من شدتها، يتوعده الأستاذ قائلاً: في المرة القادمة إن نسيت واجبك ستكون عقوبتك أشد وأقوى، مرت الأيام والسنين تلقى خلالها الكثير من الصفعات في حياته، في عمله وبيته، ومع كل صفعة كان النسيان يأكل ذاكرته كما تأكل النار الحطب، تنهد الرجل من أعماقه وتمنى أن يلتقي بأستاذه مرة أخرى ليقول له: نعم أستاذي لقد نسيت أن آكل، صفعاتك وصفعات كل متحكم في حياتي، جعلتني أنسى كل شيء، حتى الأكل.