حكمة الإعجاز …

الجريدة العربية – إدريس زياد

لقد نزل القرآن معجزاً ومعجزة في اللغة العربية، يتحدى قوماً عرباً أقحاحاً، صنعتُهم اللغة، ومهنتهم البلاغة، وديدنهم الشعر، ونظم المعلقات، كل ذلك عندهم يزيد عمق الفكرة، وينضحها حتى تستوي على عودها، ومن ثم يمكن فهمها من النسق، أو من السياق، أو من التأويل، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب المعجز المتفرد غير المسبوق، يتجاوزهم متحدثاً بلغتهم، وقد استخدم القرآن معظم لغات العرب في الجزيرة، قبائل وعشائر وجغرافيا، فظهر ذلك بوضوح في القراءات القرآنية المختلفة، بل إن القرآن الكريم أدخل بعض مفردات من لغات أخرى من الثقافات والحضارات المحيطة بجزيرة العرب على مدار قرون غابرة …

كانت بعض هذه المفردات المستقاة من ثقافات غير عربية، مستخدمة لدى بعض أقوام من العرب، وبعضها الآخر (المفردات)، قد استخدمه القرآن للمرة الأولى، وبذلك دخلت هذه المفردات اللغة العربية ضيفاً عزيزاً مكرماً، وفوق هذا كله ومعه، فالقرآن يتحداهم بقوة علم الغيب، وبقوة قدرة الله على معرفة إمكانياتهم اللغوية والبلاغية لأنه خالقهم، بأنهم لن يأتوا بقرآن مثله، أو سورة منه، أو حتى آية، فعجزوا جميعاً على مدار الزمان منذ النزول وحتى اللحظة، عن الإتيان بشيء من ذلك أو جزء من هذا الشيء، وما زالوا عاجزين، ليس فقط عن أن يأتوا بذلك فحسب، بل لا زالت مشكلة فهم القرآن وتفسيره، واكتشاف أسراره، تحدياً آخر قائماً، وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة إعجازاً ومعجزاً…

كانت الآية من القرآن، كل آية، سواء من المحكم أو المتشابه، تحتوي على معان متعددة، منها ما هو جلي واضح ميسور، ومنها ما يُفهَم من السِيَاق، ومنها ما لا يزال حتى اليوم مغلقاً محيّراً يكتنفه الغموض، إمعاناً في العجز والإعجاز والتحدي، وذلك في انتظار فتوحات و إلهامات تتنزل من رب العالمين على العارفين والمتدبرين والمتفكرين من أهل القرآن وصفوتهم ونخبهم، الذين نذروا أنفسهم من أجل خدمة القرآن، وهؤلاء عادة هم الذين يسخرهم الله لفتح مغاليق مثل هذه الأبواب بمفاتيح مباركة لا يملكها أحد سواهم في زمانهم، ليبقى القرآن العظيم كتاب الله الخالد المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل أبداً، يمتلك مساحات واسعة لا محدودة، ولا تنتهي للتفكر والتدبر والتمعن، متيحاً بفضل الله مزيداً من سبر الغامض، وكشف المستور، وفتح المغلق…

يوجد اليوم على وجه الأرض ما يزيد على مائة وخمسون تفسيراً للقرآن بإحصاء لأهل الاختصاص، إذا ما صحت التسمية (تفسير)، وانضبطت هاته التفاسير بمعايير وأدوات ومناهج التفسير التي وضعها العلماء والفقهاء على مدار قرون، فبعض العلماء يصف بعض التفاسير بأنها خواطر أو إطلاق عنان الحديث عن الآية أو الآيات، دون منهجية معيارية واضحة دقيقة موثوقة، معظم هذه التفاسير اليوم، غير معروف لعامة المسلمين، والمنتشر منها قليل، لا يزيد عن عشرة أو عشرين تفسيراً، لدى كل من السنة والشيعة معاً.

Exit mobile version