أعمدة الرأي
أخر الأخبار

الخطر الزاحف… بين قم وطهران والدوحة: حين يتهدد المغربَ تحالفُ العمائم والذئاب الإيديولوجية

الجريدة العربية – ذ. بوحافة العرابي *

في زمنٍ تتكالب فيه المشاريع الهدامة على الكيانات الوطنية، وتُستباح فيه الجغرافيا والعقيدة والسيادة باسم “التحرر” أو “الصحوة”، تتخذ معركة الاستقرار بعدًا وجوديًا لا تحتمله سوى الدول الراسخة. وفي خضم هذا السيل الجارف من التفتيت الرمزي والمؤسساتي الذي يجتاح المنطقة، يبرز المغرب كـ استثناء حضاري وسياسي فريد، ليس فقط في محيطه المغاربي والإفريقي، بل في كامل العالم العربي والإسلامي، لما يمتلكه من منظومة متكاملة من الشرعية التاريخية والمؤسساتية والدينية.

الأستاذ بوحافة العرابي - رئيس التحرير
الأستاذ بوحافة العرابي
رئيس التحرير والنشر بالجريدة العربية

إن المغرب، بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله، لا يواجه مجرد ضغوط عابرة أو تهديدات ظرفية، بل هو مستهدف ضمن مخطط مركّب، تتقاطع فيه أطراف ظاهرها متنافر وباطنها متواطئ. مشروع يتكئ على أدوات ناعمة وخطيرة: الإعلام المُضلل، التمويل العابر للحدود، والخطاب الديني المشحون بالفوضى العقائدية، وكلها تستهدف نواة الهوية المغربية: وحدة التراب، سيادة القرار، واستمرارية إمارة المؤمنين بوصفها العمود الفقري للتماسك الوطني والروحي.

إن ما نراه اليوم ليس عشوائية سلوكية من جماعات معزولة أو كيانات هامشية، بل هو تجلٍ صارخ لإستراتيجية توسعية مؤدلجة، تشتغل على المدى البعيد، وتسعى لزرع بذور الانقسام داخل المجتمعات، عبر استهداف الثوابت التي تُشكّل صمّام أمانها. والمغرب، بما يمثّله من حصن تاريخي سني معتدل، ونموذج استقرار داخل محيط مضطرب، صار هدفًا رئيسيًا لهذا المشروع الذي لا يَقبل بالاختلاف، ويخشى مناعة الدول التي تؤمن بالخصوصية الحضارية والمرجعية الدستورية الأصيلة.

المغرب… الاستثناء الحضاري وقلعة الممانعة العقدية في العالم الإسلامي

لم يكن المغرب في أي مرحلة من تاريخه دولةً عاديةً على هامش الجغرافيا الإسلامية، بل ظلّ نقطة ضوء حضاري وممانعة عقدية متجذّرة في وجه موجات التغريب، أو مشاريع التشييع، أو حتى نزعات الأسلمة السياسية المتطرفة. ففي الوقت الذي اهتزّت فيه العديد من الدول أمام مدّ الطائفية أو الانزلاق نحو نماذج مستوردة من “الدولة الدينية”، حافظ المغرب على خصوصيته الفريدة من خلال ثلاثية روحية وعلمية متينة: العقيدة الأشعرية، المذهب المالكي، والتصوف السني التربوي. هذه المنظومة ليست فقط عناصر مذهبية، بل هي عصبٌ روحي لمناعة الدولة ووعي الأمة المغربية، به تمكّنت من تحصين الهوية الدينية من كل اختراق.

ومن هنا، فإن المشروع الإيراني، الذي يسعى إلى فرض “نظام التشيّع السياسي” عبر تصدير نموذج ولاية الفقيه، يرى في المغرب “الحلقة الأصعب” و”العقدة التي يجب تفكيكها”. لا لشيء سوى لأن المغرب يقدّم نموذجًا ناجحًا في الربط بين الشرعية الدينية والسيادة الوطنية، دون ارتهان لمراكز القرار الديني في “قم” أو استيراد للخطابات الموسيقية العاطفية “للولي المُطلق”.

هذا الاستثناء المغربي، الذي ظل صامدًا طيلة قرون، لم يُثر فقط قلق صُنّاع القرار في طهران، بل استنفر أيضًا أذرع المشروع الإخواني العابر للحدود، من “حزب الله” في الضاحية اللبنانية ، إلى “الإخوان المسلمين” في الدوحة، مرورًا بأذرعهم الدعوية والسياسية في الداخل المغربي، التي تسعى لتفكيك الإجماع العقدي من الداخل، تحت مسميات مخاتلة مثل “الإصلاح” و”التجديد”.

قطر والاختراق الناعم… حين تتحوّل المساعدات إلى أدوات لتقويض السيادة

في قلب هذا المشهد المركّب، تبرز الدوحة ليس فقط كفاعل إعلامي أو وسيط سياسي، بل كـ”خزينة مفتوحة” لتمويل المشاريع الإيديولوجية العابرة للحدود. فمن خلال أذرع ناعمة مثل القنوات الفضائية، والمنظمات “الحقوقية” والهيئات الخيرية، تضخ قطر مليارات الريالات سنويًا لدعم جماعات دينية تسعى لتقويض النموذج الوطني للدولة. إنها ليست مساعدات إنسانية بقدر ما هي استثمارات استراتيجية في زعزعة الأنظمة، وخلق “طبقات دعوية” جديدة تدين بالولاء للعابر الأممي لا للسيادة الوطنية.

والمغرب، بحكم موقعه الريادي والروحي، ظلّ دائمًا في مرمى هذه المشاريع، التي تسعى إلى زراعة بذور الاضطراب في التربة المستقرة. وهي محاولات تتقن فنّ التسلل من الشقوق الصغيرة: الإعلام، التعليم، العمل الجمعوي، وحتى منابر المساجد.

لكن ما تغفل عنه هذه الأجندات هو أن المغرب، بعكس الكثير من الدول، ليس دولة رخوة أو ساحة اختبار للنماذج المستوردة. إنه بلد يملك مؤسسات عريقة، على رأسها إمارة المؤمنين، وشرعية تاريخية لا تُشترى بالدعم الخارجي. ومهما حاولت الدوحة أو غيرها من ممولي “الفوضى العقدية” تعويم هذه الجماعات، فإن التحصين الشعبي، والثقة في الثوابت، واليقظة المؤسساتية تُحبط كل محاولة للتمكين الناعم أو الانقلاب الرمزي.

إمارة المؤمنين: الحصن الحصين في زمن الفوضى العقائدية

لم تكن إمارة المؤمنين في المغرب يومًا مجرّد عنوان دستوري يُزيّن ديباجة الوثائق الرسمية، أو مجرد موروث رمزي من حقب الخلافة الإسلامية، بل هي “جهاز روحي-إجتماعي-سياسي متكامل” يشكّل العمق الوجودي للدولة المغربية. إنها مؤسسة متجذّرة في التاريخ، متأصلة في وجدان الشعب، ومؤسسة فوق زمنية أثبتت على مدى قرون قدرتها على التحصين العقدي والسياسي للأمة المغربية، أمام كل مد تخريبي أو اختراق مذهبي.

في هذا الزمن المضطرب، حيث تتهاوى الدول تحت ضربات الطائفية، ويُستباح الدين باسم “الوصاية الإلهية”، يبرز المغرب كـ الاستثناء النابض بالتماسك والوضوح العقدي، حيث تظل إمارة المؤمنين ليست فقط مظلة للتماسك الروحي، بل أيضًا درعًا سياديًا ضد أدوات الهيمنة الإيديولوجية أو التوظيف السياسي المشبوه. هذه المؤسسة تُجسّد التقاء العبقرية المغربية في الجمع بين الشرعية التاريخية والبيعة الشرعية، وبين الحصافة السياسية والرؤية المستنيرة لمفهوم الزعامة الدينية.

في المقابل، يقف مشروع “ولاية الفقيه” كنموذج مضاد، يسعى لفرض هندسة عقائدية أحادية على باقي الدول الإسلامية، من خلال سلطة دينية فوق وطنية، تُملي الولاء لا للوطن أو الشعب، بل لـ”المرشد الأعلى” في قم، في إطار وصاية فقهية عابرة للحدود، تتغذى على فكرة التبعية العقدية لا الوطنية. هذا المشروع لا يسعى فقط إلى نشر المذهب، بل إلى هدم السيادة الوطنية، وتفكيك الأنظمة التي لا تخضع لمنظومته اللاهوتية.

وهنا، يتجلّى الدور الريادي للمغرب، ليس فقط في تحصين ذاته، بل في قيادة الخط الدفاعي الأول عن الإسلام السني المعتدل، وتقديم نموذج حضاري في العلاقة بين الدين والدولة، يُغني المشهد الإسلامي العالمي بنمط مغربي فريد. نموذج يزاوج بين الأصالة والتحديث، بين الوفاء للمرجعية الإسلامية والانفتاح على العصر، دون تنازل عن السيادة أو الذوبان في مشاريع مذهبية خارجية.

في زمنٍ يُباع فيه الدين في أسواق السياسة الدولية، تُشكّل إمارة المؤمنين في المغرب جدار الصد الأخير في وجه الزحف الطائفي، ومشروع الأدلجة الممنهجة. إنها ليست فقط مؤسسة وطنية، بل قيمة حضارية تستحق أن تُدافع عنها الأمة الإسلامية جمعاء، لأنها تمثل بصدق ما يمكن أن تكون عليه القيادة الدينية حين تقترن بالحكمة والشرعية، لا بالغلو والتسلّط.

المغرب في قلب المواجهة… لا حياد في معركة العقيدة والدولة

لم يعد المغرب، اليوم، مجرّد دولة تحمي حدودها الجغرافية فحسب، بل أصبح درعًا حضاريًا شامخًا يحرس عقيدته، ويصون هويته الروحية والتاريخية من كل أشكال التلويث العقدي والانحراف الأيديولوجي. إنّ ما تواجهه المملكة ليس صراعًا ظرفيًا ولا مجرّد خلافات سياسية عابرة، بل هو صراع وجودي مركزي، يتعلّق بمسألة بقاء الدولة الوطنية المستقلة بمؤسساتها الشرعية، وعلى رأسها إمارة المؤمنين، في مقابل مشاريع ظلامية تحاول إعادة تشكيل المنطقة وفق منطق ديني موجه ومسيس.

فالتمدد الشيعي القادم من قم الإيرانية، والمغلف برداء “المظلومية التاريخية”، يتقاطع مع خطاب “التمكين” الذي يتبناه الإخوان المسلمون ومن يدور في فلكهم، لتُصبح الساحة المغربية مستهدفة بخطاب مزدوج: ناعم في شكله، عنيف في أهدافه. إعلامٌ موجه، وخطاب ديني بديل، وتمويلات مشبوهة تتسلل عبر الجمعيات، وحتى بعض المنابر الأكاديمية؛ كلها أدوات اختراق تعمل بصمت لتقويض ما بناه المغاربة، حجرًا على حجر، منذ قرون، تحت راية إمارة المؤمنين والبيعة الشرعية.

ومن هنا، فإن معركة المغرب ليست فقط مهمة أجهزة الأمن والدبلوماسية، بل هي معركة وطنية شاملة، تتطلب تعبئة فكرية وتحصينًا ثقافيًا، يقوده الإعلام والمثقفون ورجال التعليم والخطباء والأئمة. إنها معركة في العمق، معركة على هوية الأمة، تُخاض بالكلمة والموقف كما تُخاض بالمعلومة والرؤية.

العدل والإحسان والعدالة والتنمية: عندما تلتقي أجندات الداخل مع أجندات الخارج لزعزعة الثوابت

وفي المشهد السياسي المغربي، وبتازمن مع ما يحاك ضد المملكة المغربية من أعداء الخارج، تتشكل اليوم جبهة رمادية تُثير كثيرًا من الريبة، حيث تتقاطع أجندات جماعة العدل والإحسان مع حزب العدالة والتنمية في نقطة مفصلية وخطيرة، وهي محاولة إضعاف شرعية الدولة، والتشكيك الممنهج في إمارة المؤمنين باعتبارها الركيزة الدستورية والروحية للمغرب. جماعة العدل والإحسان، التي ترفض في العمق البيعة الشرعية، وتتبنى أدبيات “الخلافة الثانية”، لا تفعل سوى إعادة تصدير النموذج الإيراني في صيغة مغربية محلية، تقوم على فكرة الإمام المستتر و”الولي الصالح” الذي يستمد سلطته من غموض لا يحتكم لأي مؤسسات شرعية أو دستورية.

أما حزب العدالة والتنمية، فإنه يُواصل اللعب على حبال التناقض، إذ يسوّق خطابًا مزدوجًا يتأرجح بين الولاء الظاهري للمؤسسات، والانخراط غير المعلن في مشروع الإسلام السياسي العابر للحدود. فبعض قياداته، وفي طليعتهم عبد الإله بن كيران، أظهروا خلال محطات حاسمة من تاريخ المملكة تذبذبًا مقلقًا في مواقفهم من قضايا كبرى تمس جوهر الوحدة الترابية والهوية الوطنية، ما يطرح علامات استفهام كبرى حول موقعهم الحقيقي من معركة السيادة والولاء للدولة.

إن خطر هذا التلاقي بين الجماعة والحزب لا يكمن فقط في الشعارات، بل في ما يُروّج له من تصورات بديلة تهدد تماسك النموذج المغربي الفريد القائم على الملكية الدستورية وإمارة المؤمنين كضامن روحي وأمني لأمن المغاربة واستقرارهم.

المغرب ليس ساحة للتجريب… بل منارة للثوابت والاستقرار

من قم إلى الضاحية الجنوبية، ومن الدوحة إلى مدن الغرب الأوروبي، وصولا إلى البعض ممن يأكلون في أطباقنا و يسكنون بين ضهراننا، تتكامل خيوط مشروع عابر للحدود، يجمع بين أوهام “الخلافة” و”ولاية الفقيه” و”الإسلام السياسي”، ليصوغ خريطة جديدة لا تعترف بالدول، بل تستبدلها بكيانات طائفية وجماعات مؤدلجة تُدار من وراء الستار. والهدف؟ ضرب الدول الوطنية المستقرة، وهدم منظوماتها السيادية، واستبدالها بأنظمة الولاء العابر للطوائف والمذاهب والحدود.

لكن المغرب، بكل إرثه التاريخي ورصيده الحضاري، ليس ولن يكون ساحة لتجريب هذه الأطروحات الطارئة. فالمغرب له ملك شرعي، وله إمارة للمؤمنين ذات مشروعية دينية وتاريخية متجذرة، وله مشروع وطني يقوم على الاعتدال والوسطية والانفتاح الراشد. لتعكس أن المغاربة قد اختاروا منذ قرون، دولة قائمة على البيعة الشرعية، لا على الفتوى السياسية، وعلى الاستقرار المجتمعي لا على الفوضى الثورية.

وكما أكد جلالة الملك محمد السادس في أكثر من مناسبة: “المغرب ليس حديقة خلفية لأحد”. هذه العبارة ليست فقط تعبيرًا عن موقف سياسي، بل إعلان صريح لرفض أي وصاية خارجية، أكانت إخوانية، أو طائفية، أو أيديولوجية.

خاتمة: المغرب أولًا … المغرب دائمًا … المغرب أبداََ

إن الدفاع عن إمارة المؤمنين، وعن وحدة المغاربة العقدية والمذهبية، لا يمكن أن يكون ترفًا فكريًا أو خيارًا ظرفيًا. إنه اختيار استراتيجي يرتبط بمصير الوطن، وبحماية خصوصيته، وضمان استمرارية مؤسساته.

في المغرب، لا مكان لـ “الولي الفقيه”، ولا موطئ قدم لـ “خلافة على نهج المرشد”، ولا مستقبل لـ “مشاريع التمكين الممولة من الخارج”. في المغرب، هناك شعب موحد حول ملكه، ومؤمن بثوابته، ومتيقظ لمخططات التقويض الناعمة.

وهنا، تكمن قوة المغرب الحقيقية: وعي شعبي راسخ، ومؤسسات قوية، وقيادة حكيمة. ولأن المغرب لا يحني رأسه إلا لله، فإن كل المخططات ستتحطم على صخرة استقراره، كما تحطمت قبلها مشاريع كثيرة حاولت العزف على أوتار الفوضى.


* ذ. بوحافة العرابي باحث أكاديمي وكاتب صحفي مقيم بأوروبا، بشغل منصب رئيس هيئة التحرير و النشر بالجريدة العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى