الكاتب رحال الإدريسي يقدم دراسة تحليلية نقدية في كتاب أدركها الخريف للكاتب والشاعر “حسن الشافعي”.

الجريدة العربية

إضاءات في ديوان أدركها الخريف للاستاذ حسن الشافعي

(عتبة أولى)
لم يكن الصمت هزيمة و لم يكن الصراخ نصرا، و لم تكن المعارك المحبوكة بجعجعات و لا وجبات من رمي لحجر في قعر الأحداث.

(  في ترتيب الديوان)

و أنت تجوب معاني الديوان و معالمه، تجدك أمام هدوء جميل و توضيب للقصائد داخل رقعة الديوان ، هذا التنميق البارع صاحبه في توضيبه… العتبات العناوين و التقسيم لمحطات الديوان ثم الخط المكتوبة به القصائد، كتبت بالأندلسي و هذا الاختيار يشير إلى هندسة بناء الديوان من حيث الظاهر ثم عمق و فحوى الكلمة…
هذا الاعتناء و ضبط التفاصيل يجعلنا امام عتبة كبرى نقرأ من خلالها  هدوء الشاعر و صمته الجميل هذا الهدوء و ترتيب الديوان يرمز لهدوء صاحب الديوان و ترتيبه لأفكاره، نجده قليل ضجيج بين السطور، يكتب بأدب مثقف و حتى الفراغات بين الصفحات يني عن اختيار المساحات بعدا عن زحمة و صخب الاكتظاظ،
هذا البعد الدلالي عندي ينبئ بكاتب أخذ منه مخالطة الجموع من حجيج الفصول، يكتسب فن الإنصات و الهدوء له و لذاته أكثر من صخب و ثرثرة ٍ تدمر عمق التفكير، و تمزق معادلات حسن التدبير.

(سيمياء الصّمت و سيمياء الفراغ)

يعلن الشاعر في عنق زجاجة الديوان في الصفحة 17 : (لم يكن صمتي هزيمة)
السؤال البديهي هنا : أ هناك ما يدعو للصراخ؟
و هل من قاعدة ننطلق منها لتنتفخ أوداج الكلام؟
الشعرُ حسٌّ و مجموع كلام و قولٍ ، و الذات الشاعرة بيت النّار و المواقف موقد و مادّة خام للهبِ الشّاعرِ.
تعمّدت خوض غمار الدراسة من وسط الديوان لا لشيئ إلا انني استحضرت لغة  و سيمياء الصمت بقوة.
هذا الصّمتُ الصّارخ الصّاخب
أهي غربة مغترب في وطن الإنصات؟
أم خلوة منبرٍ عن شاعر يسبق الزمن
و لا سامع لصوت مسبوقٍ في حضرة الفهم، يكتب  يجر الزمن و يسكت يجيب السبق للزمن؟
هذا الاغتراب ابتلاء يتجرع مضاضته و يلتقي في شهد الآحاد زمرة من شعراء يسمو بهم هذا الاغتراب في وطن يجمع ارواحهم فتذوب الحدود و تتوحّد الآه لذات تحس و تطرب لناي و النافخ فيها الحب الأكبر…(  كالمسيح يطفح قلبه محبة …) النبي ص 12 جبران خليل جبران الطبعة الاولى 2017 مقدمة النبي الأرشمندريت أنطونيوس بشير

بين التي أدركها الخريف هذا الحضور و هاته العلاقة المواحدة و قد أقول المتوحِّدة كمصطلح صوفي حلاجي جنيدي، بين الذات الشاعرة الحاضرة و الذات الغائبة التي أدركها الخريف.
هل الشاعر يستنطق الفراغ أم يستنطق روحاً حاضرة لم تغب عنه و لم تغادر عتبة الوجود و كينونة الذات الشاعرة ؟
و الشاهد عندي في الصفحة 11 من الديوان نجد الشاعر يوجه الخطاب بلغة القريب :
سلام عليك و أنت بيننا
سلام عليك و أنت عابرة إلى هناك
إلى ما وراء الجفون
أنت الحاضرة أنت الغائبة
عند مطلع كل يومه
عند أفول الشمس
ديوان أدركها الخريف ص 11
في انعكاس لروحين حاضرتين غائبتين، يحصِر الشاعر الزمان و المكان… و المداومة و استمرارية الحضور في غياب قهري غير مقبولٍ و غير متوقّعٍ من الشاعر… على حين غرّة.
نعطي احتمالين اثنين
1 حبه و تعلقه و قرب الروحين فهما و عمقا و استئناسا
2 المباغثة في الغياب الفجائي غير متوقَّع… جعل الشاعر يعيش الماضي في المستقبل
3  فيقحم واقعه في زمن يختاره هو، كأنه لا يتقبل حركة دوران فلك المجموعة الشمسية التي هو في دائرتها دون حضور الآخر حضورا معنويا و ماديا.
و أنت تقرأ الديوان تجد الفراغ و الصّمت مع قبول بالغياب رحيمٍ في الصّفحة 12من الديوان
يقول الشاعر حسن الشافعي و هو يخاطب روحا أقرب إليه من حبل الوريد:
أختاه…
نامي تحت شجرة فيحاء لن يدركها الخريف.
دعوة صريحة إلى متابعة الحياة الجميلة و لو على ضفاف الغياب ، يختار لها الربيع و زهرته و يختار لها الاستمرار و حيويته…
نامي تحت شجرة فيحاء… عطرها فواح مع عدم الذبول.
في قصيدة ملامح الصفحة 12 و قصيدة محاكمة الصفحة 44
يقول الشاعر : أ كلما لاحقتك بدرا
فتحتُ أمامي أبواب التّعتيم 
ص 12
و يقول : أقسم ألا يصمت و لن نصمت
ما دام متهما فوق العادة
ينتظر شمسا تمطر بخيوطها يوما
معلنة الحقيقة.
الشعر صراخ الذات الجميل و تصالحٌ مع المكنون و المخبوء منه، انسيابية الحروف و العبارات من مجاريها و طواعية البوح إليها و فيها، تُنفِّس عن كاتبها ضغط الصمت و ضغط حمل الثقال من الأسرار و يكون الحمل أثقل حين يكون المبدع منعزلا لا يجد من يفهم تمحرق الذات و بركانه الخفي، أو تجده لا يثق فيمن يحمل عنه، يكون توأم الروح لا يخاف خذلانه، أو فضح همٍّ يشغل ذائقته و هو المُتّهم البريئ و البريئ المتّهم… كم نُتّهم و نحن نحمل حبا أو احتراما و تقديرا و كم تُتّهم ابتساماتنا البريئة على ركح الحضور و كم تُتّهم خلواتنا السابرة في عمق التّفكير :لمَ الغياب؟  و كم يُتّهم الصمت فينا و هو من ضجيجهم و ضجيجهنّ براء.
أجدني في هذا الحوار بين الشاعر و أخته في كذا قصائد… أمام قلب رحيم و أمين و حاضن للأخ كمنزلة الام لابنها أو كمنزلة الاب لابنته، فهذا الاندفاع الذي تجتويه الثقة و تضمن ديمومته المحبة اللاحبة و العين الحارسة للأخ في كل محطاته و صولاته و جولاته، هذا الحوار الملامس لطبل الروح الحاضرة لا الغائبة.

(الذات المنفتحة المسالمة)


يلبس الشاعر في محطات الديوان عباءات تليق بذاته الشاعرة  فتارة تراه منقبض النّفس تلفح وجوه القصيدة براكين من حروف مشعة بما تنضح الذات ، و تارة تراه مهادنا مسالما لا يكاد يحرّك قيد أنملة ، كما نجده صبورا حدّ الجلد، لم تنحن أنفتُهُ أمام عوادي الدهر و نغص الحياة، و لم تنل منه حضوره القوي، رغم ما تناساه في طفولته ليسير على الدرب متحديا للوصول و هذا ما أشار اليه (أقمت التناسي في طفولتي لكن لم أكن يوما غائبا عن ماضي الذكريات)
كم ننظر إلى مرآة حياتنا عبر مراحلنا مرة ننظر إلى الخلف فنعد الخطى و الاشواط المتجاوزة، كما ننظر إلى المستقبل عبر طموحنا نكسر المستحيل لعلنا ننصف ظلما أقتُرف في حقّنا نعدل لرد الاعتبار للذات، فهذا الأمل كان صهوة الشاعر و كان ملهمه لتخطي العقبات و هذا الحضور و توطين الذات فيه يلبسه عباءة الأمل لغد قريب ينطق صوت الامل فيه في قصيدة (أيقونة عازفة) الصفحة 74 من الديوان

القلب من غمته انقشع
عنه الكدر
يشدو… نشوان
على وتر
و تر المحبة بين البشر
أذاب السيل… نقش الحجر
أنعش الروح
رمى بسهامه حد البصر

إذن ما الذي حرّك الضوء من تعتيم؟
و من حرك الشمس لتشرق للحقيقة؟
و من أضاء زوايا القلب من غمته؟
ليشذو نشوانا على وتر؟
و من فتح أعين الليل ليوم فيه النور حد البصر؟
قبيل قليل قرأنا أفول شمس الحقيقة و نحن نسدل الباب خلفنا بثوان نرى الروح تنتعش للحياة و لا يكون هذا إلا بمقام الرضى و الاستواء  مقام لا يشم ريحه إلا من تربى في كنف الحياة فاستوت سفينته على بر أمان الروح…. ترى السعة في الضيق و ترى البياض في سواد و ترى الجمال في قبح المادة… هنيئا لشاعرنا بهذا الفتح و زوال الحجب في فن الحياة… ذق طعم الجمال كما قال صاحب الرواية يوم تعلمت كيف أعيش.
كنا في دراسة و إضاءة انتقلنا من خلالها من سيمياء الصمت و الفراغ حيث استحضار اللامرئي الذي من خلاله ننطلق الى المرئي أختاه… و هي غير مرئية إلى نامي تحت شجرة فيحاء مرئية… هذا الاستنطاق للفراغ، فراغ بغياب الى حضور باستدعاء للغياب. و ما اروع الصمت حين يكون أعمق من الصوت و ما  أعمق الصمت يلبي نبي الكلام فيكون أبلغ و أجمل و أشمل.

Exit mobile version