بقلم : ذ. عبدالله مشنون
ضاعت سنة طبية كما ضاعت سنة شمسية وضاعت معها ساعة شمسية ، فقد ضاع العلم وضاع المعلم والمتعلم والمستفيد من العلم والمتعلم . ضاعت الحسابات وضاعت الآمال وضاعت الأحلام وضاع ركن من أركان الوطن.
ليس هناك من تعبير وتفسير وتبرير وتصوير غير هذا الذي صغناه بحرقة وكمد وحسرة ما بعدها من حسرة . ولقد كان الأمل لدينا ، كما هو أمل كل طلبة الطب وأمل آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم وأحبابهم ، أن يتم استدراك هذا الانسداد في أفق الحوار بين الطلبة والحكومة المشخصة في وزير التعليم العالي والصحة معا فيعالج الأمر استعجالا وتوضع الأمور في نصابها الصحيح على حسب قاعدة الطب ومنطق العلم كما عبر رائد الطب الحديث لويس باستور : « une place pour une chose et chaque chose à sa place »
لكن النهاية هذه السنة لم تكن سعيدة بهذا المنطق ، وإنما كانت العصا دائما في العجلة لاصقة ومعيقة ومحدقة. لأن فاقد الشيء لا يعطيه ومن لا يقبل الحوار والتواضع له لا يرتجى منه سوى الاجترار وسياسة النكوص والإدبار. وهذا هو ما حصل فعلا بعد تراجع الوزارة عيانا بيانا عن مقررات الحوار بينها والطلبة بتثبيت الست سنوات عنوة وفرضا من طرف واحد ،أحب من أحب وكره من كره. وهنا تزعزعت الثقة والمبادئ واختل العلم والأخلاق.
ونحن من منطلق التحليل الحر والشعور المشترك والغيرة الوطنية المغربية كمغاربة الخارج ، الذين هم بعقولهم وأرواحهم دائما بالداخل، لا يسعنا إلا أن نشاطر قلق آباء وأمهات طلبة الطب وكذلك خيبة أمل هؤلاء الذين ضاعت من أعمارهم العلمية سنة كاملة باطلة عبثية لا طائل يرتجى من ورائها ، ولا يمكن تعويضها وترميمها مهما حاولت الحكومة أن تصبغها بصبغات باهتة لا تعوض قيمة العلم العلم الضائع وانكسار نفوس الطلبة الشباب الذين هم عمدة الوطن وأمله الملموس والمنشود.
ومن خلال المتابعة والترصد فقد تبين أن البعد الاستراتيجي لهذا التعنت الحكومي في عدم الاستجابة للمطالب المشروعة والموضوعية لطلبة الطب هو بعد قصير النظر ومتهاوي ، مهما ضخم حجمه وروج له . خاصة ،كمؤشرات مكشوفة ،أمام تناسل المراكز الطبية والتكوينات الطبية ذات صفة الخوصصة والاستثمار المادي في مجال الصحة ، حيث الميل نحو التخلي عن القطاع العمومي في المجال لصالح الجشع المادي وتحويل الطب الإنساني إلى طب ربحي ونفعي لا علاقة له بمصلحة المواطن ولا يتناسب مع طاقته المادية والأدائية !!!.
وهكذا وجدنا معادلة غير سليمة تمهد لخلخلة التوازن الصحي والاجتماعي في البلد ، فعوض السهر على توسيع شبكة المرافق العمومية لعلاج المواطن ، ومبدأ الصحة للجميع ، ستعمل الحكومة ،بوزارتيها التعليمية والصحية، بوجه مكشوف على تعميم المراكز الخصوصية وتسهيل تناسلها السرطاني حيثما حل المواطن وارتحل . إذ لا لغة سائدة فيها سوى أداء الثمن مسبقا ثم ننظر في العلاج . وهذا قد يدخل في حكم الغرر العلاجي والتجاري كما يصطلح عليه فقهاؤنا ،بل يكون في الغالب غبنا وهدرا ماليا لا مقابل له على أرض الواقع.
والأدهى من هذا وذاك هو حينما تصبح التكوينات الطبية وكذا التمريضية هي بدورها تخضع للخوصصة وتسليم الشهادات بحسبها ،الشيء الذي سيضعف من قيمة الشهادة الطبية المحلَّفة ومصداقيتها ، بل قد يجعل المواطن وصحته في مهب الريح والقلق على المال والصحة معا.
فلقد كان طلبة الطب والصيدلة وغيرهم في أوج الاستعداد والمثابرة لعبور مسارهم بجدية ونشاط وحيوية رغم المثبطات وضعف الإمكانيات وشحة الآلات وازدحام التكوينات ، وذلك إيمانا منهم بأن الرسالة التي على عاتقهم هي الأسمى والأرقى والأنفع لهذا الوطن المغربي الحبيب .
فما بهم إلا أن صُدموا بقرارات ارتجالية وغير مدروسة وبعيدة عن واقعنا تفرض عليهم فرضا وتخلخل واقعهم خلخلة ، بل ساهمت في إطفاء شعلتهم وأساءت إلى نصاعة بذلتهم أيما إساءة. حتى إن كثيرا من الطلبة النجباء ذكورا وإناثا قد ندموا أشد الندم على اختيارهم لهذا المسار نظرا لأن منهم من كان حاصلا على شهادة البكالوريا الدولية في الرياضيات والفيزياء وغيرهما ، وكان بإمكانهم سلوك مسارات علمية أخرى ربما قد تكون مربحة لهم أكثر من الطب ،ولكنهم فضلوه على غيره لحبهم له ولنزعتهم الإنسانية والوطنية الصادقة .
فهل من أمل مع استعمال الذكاء الاصطناعي إن كان هناك ذكاء لحل هذه المعضلة وحماية الوطن وصحة المواطن والطب وطلبته من العبثية والضياع العلمي والمادي ،بل ضياع الآمال والطموحات وأسس الإقلاع نحو التقدم والتطور السليم غير العقيم ؟ نتمنى ذلك عاجلا غير آجل والله الموفق وحافظ البلاد من كل مكروه وسوء …